هذا “بنيامين نتنياهو” أو بعضاً منه

زاوية مينا

مالم نكن نعرفه، أو مالم يكن يعرفه أكثرنا، ما كان يلزم معرفته أقلّه بما يتصل بشخص بنيامين نتنياهو، الرجل الذي قد يغدو في الذاكرة الإسرائيلية ما يتجاوز بن غوريون حتى بدأ من يطلق عليه “ملك إسرائيل” دون نسيان ما يتصل بالتسمية من أبعاد ميثولوجية ربما سيكون الإسرائيليون هم الأحوج إليها في إنتاج أبطالهم وإن حملوا مخالب الشيطان.

المركز الكردي للدراسات، كان قد أفرد مقالة بالغة الكثافة تتصل بالرجل متكئاً فيها على حوار كان مواجهة ما بينه وبين المفكّر الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد، مع مقدمة لا تخلو من الضرورة حول الرجل، ففي يونيو/حزيران 1996، نشرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” سيرة مطولة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

كان قد صعد إلى الواجهة السياسية للتو بعد انتخابه رئيساً لحزب الليكود في عام 1993 ليصبح زعيمًا للمعارضة. وفي انتخابات عام 1996، فاز على شيمون بيريز، ليصبح أول رئيس وزراء إسرائيلي يُنتخب مباشرة عن طريق التصويت الشعبي، وأصغر رئيس وزراء على الإطلاق.

السيرة التي نشرتها يديعوت أحرونوت شكلت مصدراً رئيسياً لما كتب عنه لاحقاً. وتتبعت فيها نشأته وكيف أثرت هذه التنشئة في تحوله إلى قارئ مهووس بالتاريخ ونقاشات تعاقب الأمم والحضارات، وهو ميل ورثه من والده البروفيسور بن تسيون نتانياهو. مع فارق أنه كرّس كل ما يكتسبه من معارف جديدة في سبيل ملاحقة خصوم إسرائيل، بغض النظر عن الأثمان الإنسانية الفورية لعمليات حربية كتلك الجارية الآن في غزة ولبنان والتي أدت إلى مقتل عشرات الآلاف ونزوح أكثر من مليوني شخص في البلدين.

هل يجب أن تقام دولة فلسطينية؟

خلال حربي 1967 و1973، كان نتانياهو مقيماً في الولايات المتحدة. وفي المرتين، قفل عائداً لإسرائيل حيث اشترك في الحربين متطوعاً، قبل أن يعود إلى الولايات المتحدة لاستئناف دراسته في بوسطن. هناك، انخرط في إلقاء خطابات وكتابة نشرات ضد الدعاية الفلسطينية التي لاحظ أنها تشوه صورة إسرائيل المتخيلة لديه. وخلال فترة بوسطن في السبعينيات، خاض الشاب الأكاديمي والجندي أول مناظرة تلفزيونية مع المثقف الفلسطيني إدوارد سعيد بعنوان “هل يجب أن تقام دولة فلسطينية”؟

في مصدر آخر، نقرأ أنه بعد حرب أكتوبر 1973، بدأت تظهر قدرات نتانياهو الخطابية، وأول مَن اكتشف ذلك كانت القنصل الإسرائيلي في بوسطن كوليت أفيتال عندما دعته إلى المشاركة في مناظرة عن حرب أكتوبر والوضع في الشرق الأوسط في تلفزيون بوسطن المحلي مع البروفسور إدوارد سعيد. ومنذ تلك الحادثة بدأ ظهور نتنياهو في التلفزيونات الأميركية، وكثرت المقابلات معه للحديث عن الوضع في إسرائيل والمنطقة، وبدأ يظهر حبّه الكبير للكاميرا.

لم يتطرق نتانياهو لهذه المناظرة، التي يفترض أنها جرت بعد حرب 1973 ربما بعام أو عامين، في كتابه «مكان تحت الشمس»، سوى أن الطبعة العربية أضافت متابعة «يديعوت أحرونوت» لسيرة حياة نتانياهو كاملة، وفيها تم ذكر المناظرة. كما لم يذكر إدوارد سعيد أنه التقى نتنياهو في برنامج تلفزيوني سوى مرة واحدة، وهي ليست التي جرت في السبعينيات حين كان نتنياهو ناشطاً إسرائيلياً في الولايات المتحدة.

التقيا في لقاء تلفزيوني يفترض أنه كان بحدود العام 1985 حين كان إدوارد سعيد أكثر شهرة بكثير كمفكر ناقد للاستشراق ومؤيد للحق الفلسطيني، وبين نتانياهو الذي كان حينذاك سفير إسرائيل في الأمم المتحدة.

على المنصة، جلس الرجلان (إدوارد سعيد ونتنياهو) صامتين لا يتبادلان الكلام ولا النظرات. اتجه مقدم الندوة إلى الجمهور وقال: “ضيفا الليلة هما البروفيسور إدوار سعيد، أستاذ الأدب الإنكليزي في جامعة كولومبيا، وبنيامين نتانياهو، سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة. لاحظت أن الرجلين لا يتحدثان إلى بعضهما”. هنا تدخل إدوار سعيد مصحّحاً: “لا، الحقيقة أنه هو من لا يريد أن يتحدث إلي، أما أنا فلا مشكلة لدي”.

التفت مقدم الندوة إلى نتانياهو وسأله: “سعادة السفير، لماذا لا تريد أن تتحدث إلى إدوارد سعيد؟” أجاب نتانياهو: “لأنه يريد أن يقتلني” ثم قدم نتانياهو سرديته عن المتوحش الفلسطيني (إدوارد سعيد) الذي وضع على عاتقه مهمة واحدة فقط: إبادة اليهود.

يشرح سعيد عن هذا اللقاء مع نتانياهو: “لقد دُعيت إلى مناظرة تلفزيونية مع السفير الإسرائيلي، لكن نتانياهو لم يرفض الجلوس معي في نفس الغرفة فحسب؛ كان يريد أن يكون في مبنى مختلف حتى لا يتلوث بوجودي”. وطالب نتانياهو بهذا الانفصال، مدعيا أن سعيد، كفلسطيني، يريد قتله. وصف سعيد موقف نتانياهو بالقول: “لقد كان موقفاً سخيفاً تماماً”.

يشير رد سعيد إلى غضبه من حركة نتانياهو الدرامية. لقد نجح الأخير في اختلاق قصة لهذه المناظرة أجبرت حتى سعيد على سردها. وما فعله في النهاية نوع من أنواع الاحتيال الدعائي والذي يعتقد أنه فخ أوقع فيه خصمه إدوارد سعيد.

يدّعي نتانياهو معرفته العميقة بخصوم إسرائيل، خاصة ما يخفونه من مشاعر كراهية تحت عناوين فكرية ونضالية. على هذا الأساس أخذ على ياسر عرفات أنه قال لبعض ضيوفه حين عاد من تونس إلى الأراضي الفلسطينية وفق اتفاق أوسلو، قوله إن الاتفاق مثل صلح الحديبية.

في أكتوبر 1985 كتب نتنياهو عبر “نيويورك تايمز”: منظمة التحرير الفلسطينية ليست منظمة سياسية تتدخل في الإرهاب، بل هي منظمة إرهابية تتدخل في السياسة” ولم يغير رأيه حتى الآن بعد مرور نحو 40 عاماً على التوصيف”.

كذلك يذهب نتانياهو بعيداً في تدمير أسس اتفاق أوسلو، فيعتبر على سبيل المثال أن دعوات تفكيك المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية في الأرض الفلسطينية المحتلة تمثِّل عملاً من أعمال “التطهير العرقي”.

لقد جلس نتانياهو صامتاً في مناظرة سعيد وهو يعلم أن حركته هذه ستثير الدهشة والسؤال. وجواب نتانياهو جاهز حتى قبل حضوره. وهذه هي شخصيته السياسية بالذهاب إلى حيث يعتقد أنه جذر الأمور وأصلها. بالنسبة له، هل سيساهم سعيد في إيقاف إبادة جماعية يتعرض لها اليهود في إسرائيل؟ من الواضح أن نتانياهو يعتقد أن سعيداً سيكون سعيداً بذلك. يذهب زعيم حزب الليكود إلى أصل المسألة بالنسبة له وفق ما يدّعي، وهو قبول الحق اليهودي في أن يعيش على أرضه التاريخية.

من الواضح أن كلاً من سعيد ونتانياهو عرفا بعضهما جيداً، خاصة الجانب غير المعلن من التصورات لكل منهما. بالنسبة لنتانياهو هذا هو إدوار سعيد: أكاديمي يستقوي بقتلة يريدون إبادة اليهود. هذا كان جوهر حركته الدرامية في استديو المناظرة بالجلوس صامتاً ومطرقاً لا ينظر في وجه سعيد.

كان سعيد، الفلسطيني الأميركي الأكثر شهرة في الولايات المتحدة، يكتب ويظهر بانتظام في وسائل الإعلام للدفاع عن الحقوق الفلسطينية وإقامة الدولة الفلسطينية. وفي عام 1977، انتخب عضواً مستقلاً في المجلس الوطني الفلسطيني، البرلمان الفلسطيني في المنفى. بعد اللقاء مع نتانياهو بسنوات، استقال من المجلس في عام 1993 احتجاجاً على المفاوضات السرية وما وصفه بـ”المضمون المدمر” لاتفاقيات أوسلو، التي كان يعتقد أنها لن تؤدي أبداً إلى تقرير المصير الفلسطيني، بل ستحول القيادة الفلسطينية ببساطة إلى «عميل إسرائيلي» للاحتلال. في ذلك الوقت، كان سعيد وحده في كثير من الأحيان في تحليلاته، وأصبح من أشد المنتقدين لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، وهو أمر يتفق فيه كلاهما، نتانياهو وإدوارد سعيد. ورفض حل الدولتين، ونادى بحل الدولة الواحدة.

لقد آمن مباشرة أنّ توسل الحلول من داخل إسرائيل، أو تناقضاتها السياسية، للتخلص من نتانياهو، يأخذ القضية الفلسطينية إلى أزمة أعمق ويفقدها الفاعلية، وعليه، وفق خلاصات ما كتبه بشكل عابر دائماً بشأن زعيم الليكود، فإنه من أجل هزيمة بنيامين نتانياهو لا بد من مواجهة بنيامين نتانياهو.

Exit mobile version