هكذا تسيطر إيران على مؤسسات الدولة والمجتمع في محافظة دير الزور

تحقيق وقف أمين فرع دير الزور لحزب البعث “ساهر صكر” يستقبل الوفود المهنئة بمناسبة الذكرى الثانية والسبعين لتأسيس الحزب، وسط احتفاليّة رفعت فيها صور رأس النظام السوري بشار الأسد وصور الرئيس الإيراني “حسن روحاني”، إضافة للأعلام الإيرانيّة، في مشهد كان من الواضح فيه إبراز الدور الإيراني في سورية عموماً وفي دير الزور خصوصاً، دون التطرّق تصريحاً أو تلميحا إلى الدور الروسي كما جرت العادة سابقاً. هذا المشهد دفعنا للسؤال عن سبب اهتمام حزب البعث بإبراز الدور الإيراني، وما هي الدوافع لإبراز هذا الدور، وهل يتوقّف التدخل الإيراني عند الأعمال العسكريّة، ومحاولة نشر التشيّع في المجتمع السنّي العشائري، أم إنّه ذهب بالهيمنة إلى أبعد من ذلك؟! يُجمع من تحدّثنا إليهم من أهالي محافظة دير الزور على أنّ جميع الفعاليّات الاجتماعيّة التي تقام في المناسبات والأعياد الوطنيّة في المحافظة، تكون تحت رعاية المركز الثقافي الإيراني، ابتداءً من الاحتفالات المدرسيّة مروراً باحتفالات عيد الأم، وعيد المعلّم، وصولاً إلى الاحتفالات الوطنيّة (بحسب نظام الأسد). كعيد ميلاد حزب البعث، وذكرى الثامن من آذار, وعيد الجلاء. يقول “محمّد الحاج” وهو مدرّس في إحدى مدارس دير الزور الإعداديّة، في إجابة عن استفسارنا حول المركز الثقافي الإيراني: يقوم هذا المركز بالأنشطة كلها، فضلاً عن أنه الراعي الرسمي للمنح الطلّابيّة والمسؤول عن جميع أنشطة حزب البعث ومديريّة الثقافة ومديريّة التربية. كتاب تمكين موظّف آخر في حزب البعث (طلب عدم الكشف عن اسمه لأسباب أمنيّة) قال: إنّه في شهر تمّوز من عام 2018 وصل إلى ديوان حزب البعث كتاب من القيادة القطريّة، بلا رقم، يطلب فيه التعاون مع مجموعة من الشخصيّات التي تربطها علاقة وثيقة مع إيران على رأسهم “احمد علي الدرزي” مدير المركز الثقافي و”محمّد الفتيّح” أحد المتنفّذين في شعبة المدينة الثانيّة، وهؤلاء الأشخاص ذاتهم الذين زاروا إيران في شهر آب/أغسطس من عام 2018 أي بعد نحو شهر واحد من وصول الكتاب. ويضيف الموظّف لمعدّي الملف: بعد تلك الزيارة بدأ العمل على افتتاح مركز ثقافي إيراني اتّخذ من نادي الفتوّة الرياضي في حيّ الجورة خلف جامع الفتح مقرّاً له، وتولّى شخص يدعى “الحاج أبو الصادق” إدارته ليبدأ العمل بافتتاح مراكز ثقافيّة في مدينة الميادين بريف دير الزور الشرقي اتّخذ من مدرسة زبيدة مقرّاً له، ومركز آخر في مدينة التبني بريف دير الزور الغربي. هيمنة على التعليم “محمّد” وهو موظّف في مديريّة التربية قال لمعدّي هذا التحقيق إنّ مدير المركز الثقافي الإيراني “يعدُّ أحد المتنفّذين في مديريّة التربية بدير الزور، حتّى إنّ مدير التربية “خليل حاج عبيد” أصبح يوقّع على قرارات تُعدُّ في المركز الثقافي الإيراني، وتخوّله التدخّل في أدقّ تفاصيل العمليّة التعليميّة، وقد مكّنهم مدير التربية من السيطرة على الأنشطة التي تقام في المدارس كافة، فضلاً عن إعطائهم صلاحيات لتوزيع الكتب الثقافيّة التي تطبع في إيران، وهي غير مرتبطة بالمنهاج المدرسي، بالإضافة لإقامة ندوات ومهرجانات وفعاليات ثقافيّة يُجبر فيها الطلّاب، والكادر التدريسي على الحضور تحت طائلة العقوبة. وهذا ما أكّدته لنا المعلّمة “سحر” التي تعرّضت لعقوبة خصم 5% من راتبها بسبب عدم حضورها مهرجاناً نظّمه المركز الثقافي الإيراني في مدرسة زكي الأرسوزي بحي القصور، أُجبر فيه المدرّسون في دير الزور على الحضور، وقد طلب المدراء من المعلّمين أن يختاروا خمسة طلّاب من كلّ شعبة لحضور تلك الفعاليّة. تقول سحر: إنّها ليست المعلّمة الوحيدة التي طالتها العقوبة، فقرار العقوبة شمل ثلاثة عشر معلّماً ومعلّمة من مختلف مدارس المدينة، وتضيف: إنّ تدخّل المركز الثقافي الإيراني لم يتوقّف عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى فرض توزيع كتيّبات على الطلّاب عن طريق مدراء المدارس، تحمل في طيّاتها أفكاراً دخيلة على المجتمع العشائري العربي السني المحافظ في دير الزور.. إذ من شأن تلك الأفكار أن تغيِّر في البنية المجتمعيّة وتدفع باتّجاه التشيّع. عقود آجار طويلة الأمد يقول موظّف في مديريّة الزراعة: إنّ مدير الزراعة المهندس “محمود حيّو” وقّع على عقود تأجير أراض من أملاك الدولة غرب نهر الفرات، وعلى سرير النهر لشخصيّات إيرانيّة لمدّة 99 عاماً، وسجلت رسمياً بطلب من رئيس فرع أمن الدولة  “دعّاس دعّاس” وأمين فرع حزب البعث “ساهر صكر” وتغطيتهما. ويضيف الموظّف: إنّ مكتب مدير الزراعة أصبح مرتعاً للشخصيّات الموالية لإيران مثل “أبو جعفر” وهو ابن “ياسين المعيوف” أحد أذرع إيران في دير الزور حتّى قبل قيام الثورة السوريّة، كما أنّ لأقارب شيخ عشيرة البكارة الذي عقد مصالحة مع النظام السوري بوساطة إيرانيّة “نوّاف البشير” اليد الطولى في مديريّة الزراعة، وكلّهم وقّعوا عقود استثمار أو رست عليهم مناقصات توريد أسمدة ومعدّات وغيرها من لوازم المديريّة. موظّف آخر يعمل في ديوان الزراعة قال: يدير مديريّة الزراعة اليوم موظّفون جدد عيِّنتهم أذرع إيران في المنطقة، وتقلّدوا مناصب حسّاسة في المديريّة، حتّى إنّ مدير الزراعة لم يعد يستطيع السيطرة عليهم، فغدوا نافذين يفرضون ما يريدون على المديريّة، وعلى الرغم من كل تلك التجاوزات إلا أنّ ملف أراضي أملاك الدولة يبقى الملف الأخطر، إذ إنّ أكثر من نصف تلك الأراضي أجِّرت بعقود طويلة الأمد، وجميع تلك العقود سجّلت بأسماء شخصيّات موالية لإيران. المصالح العقاريّة في قبضة إيران لم تتوقّف سيطرة إيران على مديريّتي التربية والزراعة في دير الزور، بل تجاوزتهما لتصل إلى مديريّة المصالح العقاريّة يقول أحد أصحاب المكاتب العقاريّة: إنّ حركة شراء العقارات عن طريق “منظّمة جهاد البناء الإيرانيّة” نشطت في هذه الفترة، وإن أحد العاملين في هذا المجال “محمّد الفتيح” عضو في شعبة المدينة لحزب البعث كان قد زار إيران سابقاً، يرصد المنازل عن طريق المكاتب العقاريّة ويتواصل مع أصحابها ويعرض عليهم مبالغ طائلة مقابل بيع العقار وإن كان مدمّراً. ويقول أحد العاملين في مديريّة المصالح العقاريّة: إنّ أبناء “ياسين المعيوف” وعضو شعبة المدينة الثانية “محمّد الفتيح” لهم صولة كبيرة في مديريّة المصالح العقاريّة، وهم دائمو الاستفسار عن ملكيّة بعض المنازل، أو عن الورثة إذا كان المالك متوفّياً، كما أنّ هناك تعليمات بتسهيل أمورهم وتسيير معاملاتهم حتّى لو كانت تحتوي على تجاوزات قانونيّة. ويضيف إنّ أمين فرع دير الزور لحزب البعث استدعى مدير الزراعة أكثر من مرّة ومارس عليه ضغوطاً كبيرة من أجل تمكين هؤلاء الأشخاص في المديريّة، مع العلم أنّه لا علاقة لفرع الحزب بعمل المديريّة. “عبد الرحمن” أحد مالكي المنازل في حي الجبيلة أكّد أنّه تلقّى عروضاً من “طارق ياسين المعيوف” وصلت إلى 70 مليون ليرة سوريّة مقابل بيع منزله الذي تعرّض لدمار جزئي، ولدى سؤاله عن آليّة البيع قال له المتّصل إنّه يستطيع توكيل من يريد من أقاربه أو أيَّ محام على نفقتهم وأنّهم سيقومون بإجراءات التوكيل إن تمّ الاتّفاق. أنشطة إيرانيّة يؤكّد من تحدّثنا معهم سابقاً أن التغلغل الإيراني لم يتوقّف عند السيطرة على بعض مؤسّسات الدولة بل تجاوزها إلى المجتمع، إذ لا تمرّ مناسبة إلّا وإيران مشاركة فيها، وتنظم احتفالاتها، ويحضرها كبار المسؤولين، على رأسهم أمين فرع دير الزور لحزب البعث وأعضاؤه، كعيد الأم وعيد المعلّم وعيد الطفل ورأس السنة وحتّى نقل المباريات عبر شاشات عملاقة. ويقول “مصطفى الحمّود”: إنّ هذه الفعاليّات يحضرها عدد كبير من أهالي المنطقة، وتوزع خلالها كتيّبات تطبع في إيران وتتضمّن دعوة صريحة للتشيّع. مختص بالشأن الإيراني يفنّد ما يجري يقول البرلماني العراقي السابق والمختص في السياسات الدولية “عمر عبد الستار”  في تصريح خاص لـ: “مرصد مينا” إنّ هذا الموضوع جزء من كلّ، فنحن نتحدّث عن سورية التي حدث فيها صراع دولي تدخّلت فيه روسيا وإيران وأمريكا وغيرها، حتّى وصلنا اليوم إلى مرحلة رفع فيها الكرت الأحمر على بشار الأسد، وعلى حزب البعث ربّما أكثر ممّا هو مرفوع على إيران، بمعنى أنّ الأمريكان يرون أنّ إيران أصبحت جزءاً من هذا النظام، وإذا ما خلع، فالغالب أن تنتهي إيران في المنطقة. ويضيف أنّ محلّلين روس صرّحوا علانيّة بأنّ أكثر شخص يعرف أنّ بشار الأسد لا يمكن أن يحكم سوريا هو بشار الاسد نفسه، وروسيا لم تتدخّل لتمنع سقوط الأسد بل لتضبط ذلك السقوط، وهذا التصريح يربطنا بحزبه، فالصور المذلّة التي انتشرت لبشّار الأسد، وعدم دعم الروس لنظام الأسد اقتصاديّاً تثبت تلك النتيجة، فروسيا لا تريد من الأسد أن ينخلع عن إيران، وأن يذهب إلى الحل السياسي، هي لم تعد تريده أصلاً، فعندما يذهب به “قاسم سليماني” إلى إيران ثمّ يجتمع مع ضبّاط إيرانيين بصورة مهينة، ثمّ يعطي حزبه ومخابراته أوامر لدير الزور بأن تتبع للمركز الثقافي الإيراني، فهذا يعني أنّه ملتصق بإيران التصاقاً لا يمكن فكّه، وربّما إيران من دفعه ليصل إلى هذه النتيجة، إذ إنّ شرائح كبيرة من موالاة نظام بشار الأسد وصل إلى الاعتقاد بأنّ موتها وحياتها متعلّق بالوجود الإيراني، وهي ترى وجوب الوقوف إلى جانب إيران حتّى النهاية، وقد انقسم المجتمع الذي كان يوالي بشار الأسد عموديّا، إذ إنّ جزءاً منه أصبح يريد رحيل الأسد، فيما بقي قسم كبير على موالاته، وفي النتيجة هم موالون لإيران بشكل مطلق، وهذا جزء مهم مما يجري في دير الزور. إذ يؤكّد أنّ انقسام المجتمع الموالي لبشار الأسد ما بين روسيا وإيران سيمهّد الطريق إلى صدامِ معلن ما بين هاتين الفئتين، وربّما هذا ما عملت عليه روسيا منذ عام 2015، لذلك عندما يحدث هذا الصراع سيفتح المجال لتدخّل دولي بناء على العامل المحلّي لإزالة بشار الأسد وحزبه. ويرى بعضهم أنّ الشيء المهم في دير الزور هو قربها من الحدود العراقيّة فضلاً عن كونها الرابط للطرق البريّة التي تسلكها إيران، لذلك ستقاتل في دير الزور حتّى آخر رمق، ويعتقد حتّى لا ينفرط عقد الحرس الثوري الإيراني في سورية عليها أن تحافظ على دير الزور بكلّ الطرق، ومنها الهيمنة على الحياة الاجتماعيّة فيها. النتيجة تحاول إيران السيطرة على كل مفاصل الحياة في دير الزور، اجتماعياً وسياسياً وثقافيّاً، وتسعى، كما يقول بعض المراقبين، إلى تغيير بنية المجتمع من خلال السيطرة على تلك المفاصل، وبالتالي تستطيع أن تتجذّر بشكل يصعب اقتلاعها منه، وبالتالي ندخل في باب احتلال جديد، قد يكون أشدّ خطراً على المجتمع وأكثر فتكاً به، ويبقى السؤال هنا، هل بقي نوع من أنواع التعديات على البشر والحجر لم تمارسه إيران في سورية؟! إنه الاحتلال بأبشع صوره..! مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

Exit mobile version