حتمًا اوروبا في حالة إن لم تصل إلى مستوى “الرعب”، فهي أقرب إلى المخاوف التي باتت تطال سكّانها، ونخبها، وسياسييها، ولابد أن تتدحرج هذه المخاوف وصولاً إلى مرحلة الرعب، فإذا ماوقعت حرب روسية أمريكية على الأراضي الأوكرانية، فلن تكون ولا بحال من الأحوال سوى كارثة غالبًا ما تتخطى الحرب العالمية الثانية وكان سلاحها دبابات ومشاة وطائرات ليست أكثر من حاملات قنابل ترميها بعين الطيار لا بعين الحواسيب التي تلتقط دبيب النملة، والأمر الآن لابد وبالغ الخطورة حتى لتبدو كلمة كارثة، أقل مجازًا من الحقائق التي ستشهدها بلدان خرجت من الحرب العالمية الثانية بملايين الضحايا، وبمدن مدمّرة وأفران لحرائق الأحياء والجثث، والأوروبيون الذين ذاقوا مرارة الحرب ليسوا بالجاهزية الكافية لحرب جديدة، وقد باتت شعوبهم تطمح الى الرفاهية لا إلى قرقعات السلاح.
ولكن التداعيات اليومية للمسألة الأوكرانية، باتت كما لو انها تضع العالم على حافة الحرب، والانزلاق من الحافة إلى الهاوية قدد لايتطلب أكثر من قرار مجنون، وعالم السياسات الدولية اليوم لايخلو من المجانين الذين قد يفضلون أوامر الغرائز على حقائق المصالح سواء ما يتصل منها بالاقتصاد أو تلك التي تتتصل بحياة الناس.
الروس اليوم يحشدون، والأمريكان كانوا قد استكملوا الكثير من التحشيد عبر زرع القارة الأوربية وسواها بالأسلحة النووية، ومن / سواها/ قاعدة انجرليك التركية التي تحوي على مايزيد عنن مائتي رأس نووي، فيما الروس يمتلكون مئات الرؤوس النووية الموروثة من الاتحاد السوفييتي السابق، وتلك الوليدة التي جاءت مع امبراطورية فلاديمير بوتين.
ثمة من يرى أنه في واقع العصر الحالي، لا معنى لمقارنة إمكانيات القوة الحقيقية للدول النووية العظمى، عما كان الحال في الحرب العالمية الثانية، فمخزونات الأسلحة الأكثر فتكا في التاريخ، التي أنتجتها روسيا والولايات المتحدة وربما الصين، ستؤدي، إذا تم استخدامها، إلى موت البشرية جمعاء. وليس من قبيل المصادفة أن القوى النووية نفسها تذكرنا بهذا في كثير من الأحيان في تصريحاتها.
وبما أنه لن يكون هناك رابحون في مثل هذه الحرب، فإن الوظيفة الأكثر أهمية للدبلوماسية هي استخلاص أقصى فائدة من الموقف حين يكون لا بد من تقديم تنازلات تحت ضغط خصم فاعل.
إذن مازال تجنب مثل هذه الحرب ممكنًا، بل وربما أولوية، وهذا يتبدّى من السياسات الألمانية التي تشتغل على التسويات تداركًا لوقائع كارثة لم تقع بعد، ولا يقتصر الأمر على الألمان فحتى في الولايات المتحدة الأمريكية، فكذلك ثمة صراخ يرتفع ويتعاظم تنديدًا بإمكانية وقوع حرب يتلوها الفناء لبشرية لم تعد تطيق نفسها، ولهذا فإن الهدف الآن من الحملة الدعائية الضخمة التي تشنها الولايات المتحدة وبريطانيا بشأن الغزو الروسي المحتمل لأوكرانيا هو واحد:
ـ تهيئة أرضية معلوماتية لتلبية مطالب روسيا الأساسية في مجال الأمن الأوروبي والدولي.
لمثل هذا الأمر تحتاج واشنطن إلى تقديم تنازلاتها المقبلة باعتبارها إنجازا فذا باسم إنقاذ الشعب والدولة الأوكرانية، ومنع نشوب حرب كبرى كانت وشيكة في أوروبا، مع تصورات تقول بأنه لا الولايات المتحدة ولا دول الناتو الأخرى ستقاتل من أجل أوكرانيا.
لكن الرعب الذي “تخلّص” الولايات المتحدة العالم منه، ينبغي أن يكون شاملاً بحيث لا يبقى لدى أحد شك في أهمية القرارات الأمريكية. لذلك، نرى في صورة المعلومات مزيجا من حبكتين تبدوان متناقضتين، للوهلة الأولى:
ـ أولا، تنشيط واضح للحديث عن أن أوكرانيا ليست أولوية بالنسبة للولايات المتحدة، وأن توسع الناتو قد استنفد نفسه منذ فترة طويلة.
ـ وثانيا، تحضير العالم ذهنيا للتراجع بالتزامن مع تأجيج الانفعالات حول حجم الخطر الروسي.
في الخلاصة، ضجيج إعلامي ربما لتلافي ضجيج المقابر، ومع هذا الضجيج تقف أوروبا، وحصرًا المانيا على قدم واحدة ملوحة بالأعلام البيضاء التي تعني “التسويات”.
عالم “عاقل” حتى اللحظة.
هل ينقلب إلى الجنون مابين ليلة وضحاها؟
قد يكون الأمر كذلك، ومتى لم يكن الجنون واحدًا من مديري هذا العالم؟
