مرصد مينا
ونتساءل عن حجم المؤامرة في المساحات التي احتلتها طهران من عواصم عربية، وحجم الأطراف الرديفة لطهران وقد وضعت يدها على قرار الحرب أو السلم في مناطق عربية يمكن تحديدها بـ “العراق، سوريا، لبنان، اليمن”.
المؤامرة هي فعل تاريخي، جزء من معدّات صراع، سوى أن المؤامرة التي بوسعها رسم لحظة تاريخية لن تكون صانعة تاريخ، فللتاريخ سيرورته التي تعتمد اولاّ فعل القوّة، وحجوم أطرافها في الصراع، وما حدث أنّ تمدّد طهرن على النحو الذي حدث منذ انتصار “الخمينية” تحت شعار “الإسلام هو الحل” ومن ثم “هو الطريق إلى القدس”، لم يأت بفعل المؤامرة، فيوم انتصر الخمينيون في إيران، كان العرب قد فقدوا المركز بالغياب المصري، وأول ما اشتغل الخمينيون عليه، اشتغلوا على إملاء الفراغ لينتقلوا إلى موقع المركز بعد أربعة عقود وباتوا كما هو الحال اليوم.
ما بعد كامب ديفيد خرجت مصر من موقعها، فلا عبد الناصر ليستثير الهتافات والحشود والأغاني، ولا كامب ديفيد حقق للسلام ما يسمح بالقول أن إسرائيل تخلّت عن احلامها في اجتياح محيطها العربي، وهذا حال لا يتطلب تقديم براهين تزيد عن الحروب التي شنتها إسرائيل على المنطقة بدءاً من اقتلاع منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وفي الوقت نفسه لم تحل ولا دولة عربية، أو زعامة عربية لتملأ الفراغ الذي أحدثه خروج مصر من المركز، فالعراق منشغل بالحرب مع إيران، وعلى الطرف الآخر سوريا حافظ الأسد منشغلة بالتفخيخات على العراق وبالرد على تفخيخات العراق المقابلة، مما أزاح عاصمتين هما الأكثر تأهيلاً لملئ الفراغ الذي أحدثه غياب مصر دون نسيان تحالف حافظ الأسد مع الخميني في حربها مع العراق، وتحت يافطة:
ـ القدس.
في هذا الوضع كانت الخمينية حركة تبشيرية اشتغلت اول ما اشتغلت على الاستئثار بـ “الشيعية” السياسية، دون نسيان أن مجموع الشيعة الإيرانيون لا يشكلون ما يزيد عن 30 ٪ من حجم سكان إيران الموزعين إلى أعراق وأثنيات وقوميات، تجمعهم “الفرسنة” وحين تعجز الفكرة القومية عن جمعهم، تجمعهم هراوات الحرس القومي، لتكوّن “إيران الصلبة” فيما الاقتتالات الداخلية هي السمة الأساسية للعرب وهذه ليبيا تفخخ عبر حدودها للجارة مصر، فيما الاقتتال على أشده ما بين المغرب والجزائر، أما سوريا فقد دخلت لبنان لفضّ الاشتباك ما بين اللبنانيين وبتفويض عربي، فتحوّلت من قوّة لفض الاشتباك إلى “مُحتَل” اشتغل أول ما اشتغل على تصفية القوى المنضوية تحت يافطة الحركة الوطنية اللبنانية وقد جمعت يسار ماركسي مع يسار قومي فأجهضت الحركة الوطنية اللبنانية بدءأ من اغتيال كمال جنبلاط، ليستكمل القذافي دور حافظ الأسد با ختطاف وتغييب الإمام موسى الصدر، وهو “المعمّم” المنتمي إلى “جبل عامل” بما يعني أنه لم يكن تحت عباءة الخميني ولا “ملاليه”، فكانت النتيجة أن ملأ “حزب الله” غياب الصدر بـ “التشيّع” الإيراني الذي يعني كسر ظهر “التشيّع العربي”، ومع انزياح اليسار وتراجعاته في الساحة اللبنانية كان لابد من ملء الفراغ، وكان لحزب الله أن قفز ليملأه، وليس حال اليمن المستجد ليختلف عن حال لبنان، اما العراق فقد أخلاها الاحتلال الأمريكي لطهران، ليس بفعل المؤامرة بل بفعل الغياب العربي عن العراق بعد أن لم يعثر العرب على طريق إلى عاصمة الرشيد، لا عبر القوى والتيارات القومية او اليسارية، ولا عبر المؤسسات الدينية ببعدها العربي، ما وضع “شيعة النجف” على الهامش لتملأ “قم” فراغ “النجف” وتقع العراق في اليد الإيرانية.
اليوم تأتي “حرب غزة”، ومع حرب غزة باتت طهران هي “المرجع” في السلاح وفي المفاوضات وباتت وحدها تحكي باسم الفلسطينيين حتى وهي ترمي بالفلسطينيين إلى الهاوية، وسيكون هذا بفعل الغياب العربي، ومن ثم الغيبوبة العربية، حتى باتت جامعة الدول العربية لا تتعدى في دورها مجلس تعارف لبشر يعرفون بعضهم جيداً.
فراغ هنا، يأتي من يملأه، ودون شكّ فالإيرانيون بملاليهم كانوا الأقدر على تعبئة الفراغ، مرّة بـ “العقيدة”، وثانية بالسلاح، وفي كل مرة بتطلعاتهم التوسعية التي تعني فيما تعنيه الوصول إلى “المتوسط” بعد وضع اليد على مياه الخليج العربي، وهو الخليج التي مازالت تطلق عليه الخرائط تسمية “الخليج الفارسي”، للسبب نفسه:
ـ غياب العرب يساوي حضور طهران.
ليس في المسألة ما يستدعي الاتكاء على المؤامرة.
قصور هنا يوازيه امتلاء هناك، ومازال العرب اعجز من:
ـ اختراع مركز.
ما زال العرب هم اطراف لأنفسهم، أما المركز فقد تحوّل إلى اليد الإيرانية.
هذا ما برهنت عليه “حرب غزة”.