مرصد مينا
هذا هنري كيسنجر يفارق الحياة، ومع رحيله بات اسمه الكامل “هاينز الفرد كيسنجر”، وما ان تقتطع الاسم المفرد “كيسنجر” من الاسم الكامل، حتى تخال أن ثمة رجل رسم للعالم سياسات كان من الصعب الانفكاك من قيودها وهو القادم من الأصول الألمانية، الهارب من النازية لاجئاً لأرض الأحلام “الولايات المتحدة الأمريكية” ومن هناك شهد حرباً عالمية كما لو جندي في الجيش برتبة مترجم، ومن هناك كانت القفزات الهائلة لرجل عناوينه لا تحصى، وقد يكون من علاماتها الفارقة الاشتغال على الانفراج الدولي أثناء الحرب الباردة، ومن ثم اجتياز سور الصين العظيم والأهم بالنسبة للعرب هو التأسيس لسلام عربي إسرائيلي من ضحاياه محمد أنور السادات وإسحاق رابين.
كل الأسماء التي تتالت على الخارجية الأمريكية توارت ربما باستثناء توماس جيفرسون، وبقي هنري كيسنجر العقل الأمريكي الذي سار الكل على خطاه بدءاً من مادلين أولبرايت إلى وارين كريستوفر، وهذا أنتوني بلينكن الذي لا يؤشر عن جيل الآباء المؤسسين يترك للخيبات أن ترسم مساراته وليس أقلها “حرب غزة” وقد غاب صوته في ضجيج الصرخات.
في ذروتها ونعني الحرب الباردة اشتغل هنري كيسنجر على اتفاقية “سالت” للحد من التسلح الاستراتيجي، وخلال أوج إسهاماته بالسياسة الخارجية الأميركية، لم يكن طيرانه من واشنطن إلى بكين سوى ضرب من الخيّال ومن ثم يلتقي بـ “ماوتسي تونغ” بعينيه الغامضتين ونجمته الحمراء ليفتح شرخاً لم يدمل ما بين الاتحاد السوفييتي والصين الماوية، حتى باتت صين “ماو” ضاحية أمريكية.
خلال حرب 1973، قاد كيسنجر ما لقّب بالدبلوماسية المكوكية التي ساهمت برفع الحظر النفطي المفروض على الدول الداعمة لإسرائيل بحرب تشرين الأول/أكتوبر. وبفضل جهوده الدبلوماسية، ساهم هنري كيسنجر في التوصل لاتفاق لإنهاء الحرب بين مصر وإسرائيل خلال حرب ١٩٧٣.
٢٠١٣ زيارة قام بها هنري كيسنجر إلى العالم ومن الحافة إلى الحافة، ولابد أنه كان الرجل “المُعلّن” وسط “الغموض”، حتى بات قادراً على إخفاء القصف الأمريكي لكل من كمبوديا ولاوس، ومن ثم سيفرد بساطه على الحرب الأمريكية في فيتنام لـ يوقفها” ومن بعدها ينال جائزة نوبل للسلام.
يُقال أنه قرأ “امير” ميكافيللي، غير أن قارئ ميكافيللي كان على الدوام :
ـ الدور الأول والرجل الثاني.
فهو الدور الأول في عهد نيكسون، وهو الدور الأول “متقاعدأ” بلا حقيبة ولا وزارة، وهو :
ـ هنري كيسنجر.
ولحظة ننطق الاسم، يخطرنا تلك الحقيبة الطائرة التي تعني:
ـ عبقرية الدبلوماسية حتى استقر في مقعدها الأول دون أن يترك وراءه لا رجلاً ثان ولا دوراً ثان.
ملك الدبلوماسية مات، وكدنا نعتقد وقد بلغ المئة أنه عقد صفقة مع الحياة، غير أنه الموت:
ـ وحده لايُقر بالصفقات.