مرصد مينا
توفي الزعيم السوفيتي السابق ميخائيل غورباتشوف، عن عمر يناهز 91 عاما في روسيا مساء أمس الثلاثاء بعد صراع طويل مع مرض خطير، توفي ميخائيل سيرغي غورباتشوف”.
ويلقي العديد من الروس باللوم عليه وعلى سياساته الإصلاحية في زوال الاتحاد السوفيتي وتفككه إلى جمهوريات منفصلة، فيما يُنظر إليه في الغرب على أنه مهندس الإصلاح الذي خلق الظروف لنهاية الحرب الباردة في عام 1991، وقت التوترات العميقة بين الاتحاد السوفيتي والدول الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا، بحسب بي بي سي.
حصل على جائزة نوبل للسلام عام 1990 “لدوره القيادي في التغييرات الجذرية في العلاقات بين الشرق والغرب”، بحسب مانحي الجائزة
ديمتري بيسكوف، المتحدث باسم الرئاسة الروسية قال إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أعرب عن أعمق تعازيه لوفاة غورباتشوف.
وأشادت رئيسة الاتحاد الأوروبي أورسولا فون دير لاين، بالزعيم السوفيتي الراحل ووصفته بأنه “زعيم موثوق به ومحترم” “فتح الطريق لأوروبا حرة.. هذا الإرث لن ننساه”.
من جهته قال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، إنه معجب بشجاعة غورباتشوف ونزاهته، مضيفا “في وقت عدوان بوتين على أوكرانيا، يظل التزامه (غورباتشوف) الدؤوب بانفتاح المجتمع السوفيتي مثالا لنا جميعا”.
يشار أن غورباتشوف أصبح الأمين العام للحزب الشيوعي السوفيتي، والزعيم الفعلي للبلاد، وقت أن كان عمره 54 عاما، وكان في ذلك الوقت أصغر أعضاء المجلس الحاكم المعروف باسم المكتب السياسي للحزب الشيوعي، وكان يُنظر إليه على أنه “نسمة من الهواء النقي” بعد العديد من القادة المسنين.
وسمحت سياسته في الانفتاح، للناس بانتقاد الحكومة بطريقة لم يكن من الممكن حدوثها في السابق، بالإضافة للشفافية في أنشطة جميع المؤسسات الحكومية في الاتحاد السوفيتي، بالإضافة إلى منح المواطنين السوفيت حرية الحصول على المعلومات.
لكنها أطلقت أيضا العنان للمشاعر القومية والانفصالية في العديد من مناطق البلاد، مما أدى في النهاية إلى انهيار الاتحاد وانفصال الجمهوريات.
وعلى الصعيد الدولي، توصل إلى صفقات للحد من التسلح مع الولايات المتحدة ورفض التدخل عندما انتفضت دول أوروبا الشرقية ضد حكامها الشيوعيين، وقام بمحاولة واحدة فاشلة للعودة إلى الحياة السياسية في عام 1996 ، حيث حصل على 0.5 بالمئة فقط من الأصوات في الانتخابات الرئاسية.
في السنوات الأخيرة، تدهورت صحته وكان يتردد دائما على المستشفى.
وقالت وكالة تاس للأنباء إنه سيتم دفنه في مقبرة نوفوديفيتشي بموسكو، حيث يستقر كثير من الروس البارزين بجانب زوجته رايسا التي توفيت عام 1999.، واشتهر غورباتشوف، الذي تولى زعامة الاتحاد السوفيتي السابق عام 1985، بتبني سياسة الانفتاح على العالم وتقاربه مع الغرب، لكنه لم يكن قادرا على منع انهيار بلاده وتفككها في عام 1991.
ولد ميخائيل سيرغيوفيتش غورباتشوف في الثاني من آذار / مارس 1931 في منطقة ستافروبول الروسية الجنوبية.
وكان والداه يعملان في مزارع الدولة الجماعية، وبدأ غورباتشوف الصغير بقيادة آلات الحصاد الضخمة وهو ما زال في سن المراهقة.
واصبح عند تخرجه من جامعة موسكو الحكومية في عام 1955 عضوا فعالا في الحزب الشيوعي.
وعند عودته الى ستافروبول مع عروسه الجديدة رايسا، بدأ نجمه بالصعود سريعا في التنظيم المحلي للحزب الشيوعي، وكان غورباتشوف محسوبا على جيل جديد من الناشطين الحزبيين الذين ضاقوا ذرعا من الكهول الذين كانوا يحتلون قمة هرم السلطة في الاتحاد السوفييتي.
أصبح في عام 1961 امينا عاما مناطقيا لعصبة الشيوعيين الشباب، كما اختير مندوبا للمشاركة في مؤتمر الحزب العام. وبفضل خبرته في مجال ادارة القطاع الزراعي، حصل غورباتشوف على فرصة طرح مبادرات وابتكارات جديدة مما اكسبه – علاوة على مركزه الحزبي المرموق – نفوذا كبيرا في منطقة ستافروبول.
في عام 1978، توجه غورباتشوف إلى موسكو بوصفه عضوا في السكرتارية الزراعية التابعة للجنة المركزية، ولم تكد تمر سنتان الا وعين عضوا كاملا في المكتب السياسي المنبثق عن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي.
وخلال الفترة التي تولى خلالها يوري اندروبوف منصب الامين العام للحزب، قام غورباتشوف بعدة رحلات الى الخارج، منها زيارة الى لندن في عام 1984 ترك فيها انطباعا حسنا لدى رئيسة الحكومة البريطانية آنذاك مارغريت تاتشر.
وكان من المتوقع ان يخلف غورباتشوف اندروبوف عند وفاة الاخير في عام 1984، ولكن الحزب اختار بدلا منه قسطنطين تشيرنينكو المريض امينا عاما له. توفي تشيرنينكو بعد اقل من سنة من توليه المنصب، واختير خلفا له اصغر اعضاء المكتب السياسي عمرا – ميخائيل غورباتشوف.
واصبح غورباتشوف بذلك اول امين عام للحزب الشيوعي لم يعاصر الثورة البلشفية عام 1917، ونظر اليه آنئذ بوصفه رمزا للتجديد بعد الركود الذي ساد فترة حكم ليونيد برجنيف (سبق برجنيف اندروبوف).
فقد كان لباسه الحديث وأسلوبه الصريح والمنفتح عكس ما كان عليه أسلافه، أما زوجته رايسا فقد كانت أشبه بزوجة رئيس أمريكي من زوجة الأمين العام للحزب الشيوعي السوفيتي.
وكانت المهمة الاولى التي تنتظر غورباتشوف تتمثل في احياء الاقتصاد السوفيتي المتهالك الذي كان آنذاك يقف عند حافة الانهيار.
غورباتشوف كان من الحصافة بحيث استنتج سريعا بأن الحزب الشيوعي نفسه بحاجة الى اصلاح جذري اذا كان سيكتب لاصلاحاته الاقتصادية النجاح. وادخل الحل الذي ابتكره غورباتشوف لهذه المعضلة عبارتين باللغة الروسية الى الاستخدام العام، إذ قال إن البلاد بحاجة الى “بيريسترويكا” او اعادة هيكلة، وإن الأداة التي سيستخدمها لتحقيق هذا الهدف هو “غلاسنوست” او الانفتاح.
وقال مخاطبا مسؤولي الحزب في لينينغراد (سان بطرسبرغ) “إنكم متخلفون عن ركب الاقتصاد، وإن البضائع الرديئة التي تنتجونها أصبحت مصدر إحراج.”
لكن غورباتشوف لم يكن يخطط أبدا لاستبدال سيطرة الدولة على الاقتصاد بنظام للسوق الحرة، كما أوضح في كلمة ألقاها امام جمع من مندوبي الحزب في عام 1985 قال فيها “بعض منكم ينظر الى اقتصاد السوق بوصفه طوق النجاة لاقتصاداتكم، ولكن يا رفاق لا ينبغي ان تفكروا باطواق النجاة بل بالسفينة ذاتها والسفينة هي الاشتراكية.”
وكان السلاح الثاني الذي لجأ اليه غورباتشوف للتصدي للركود الذي كان يعاني منه النظام السوفيتي هو الديمقراطية، فللمرة الاولى استحدث غورباتشوف انتخابات حرة في مؤتمر نواب الشعب.
أدت خطوات غورباتشوف نحو تخفيف الصفة القمعية للنظام السوفييتي الى تململ في صفوف القوميات المختلفة التي يتكون منها الاتحاد السوفيتي المترامي الاطراف، واطلقت الاضطرابات التي شهدتها كازاخستان في ديسمبر / كانون الاول 1986 حقبة اتسمت بالاحتجاجات.
كما أراد غورباتشوف وضع نهاية للحرب الباردة، وتمكن من الاتفاق مع الرئيس الامريكي رونالد ريغان على إلغاء صنف كامل من الأسلحة النووية من خلال معاهدة الاسلحة النووية المتوسطة، كما أعلن عن خفض أحادي الجانب في القوات التقليدية السوفيتية، وأنهى التدخل الدموي والمذل في أفغانستان.
لكنه واجه أصعب امتحاناته في الدول التي ضمها الاتحاد السوفيتي دون رغبة سكانها، ففي هذه الدول، أفضى انفتاح غورباتشوف وديمقراطيته إلى ظهور حركات تدعو للاستقلال، وهي حركات قمعها غورباتشوف بالقوة أول الأمر.
ثم بدأت عملية تفكك الاتحاد السوفيتي في جمهوريات بحر البلطيق (استونيا وليتوانيا ولاتفيا) في الشمال التي انفصلت عن موسكو مما أدى الى انتشار الانتفاضات في دول حلف وارسو.
وبلغت هذه الاتنتفاضات ذروتها في التاسع من نوفمبر / تشرين الثاني 1989 عندما سمحت السلطات في جمهورية ألمانيا الديمقراطية – أكثر حلفاء الاتحاد السوفيتي تشددا – لمواطنيها بالعبور سالمين الى برلين الغربية وذلك عقب مظاهرات كبيرة عمت مدن البلاد.
لم يرد غورباتشوف على هذا التطور الخطير بالطريقة السوفيتية التقليدية، إذ لم يستخدم القوة واكتفى بالقول إن إعادة توحيد ألمانيا شأن ألماني داخلي.
ولكن بحلول اغسطس / آب 1991، بلغ السيل الزبى لدى الحرس الشيوعي القديم في موسكو، فقام هؤلاء بانقلاب عسكري وألقي القبض على غورباتشوف اثناء تمتعه باجازة عند ساحل البحر الأسود.
منحت المحاولة الانقلابية زعيم الحزب في موسكو، بوريس يلتسين، الفرصة التي كان ينتظرها، فقمع الانقلاب وألقى القبض على المتظاهرين وجرد غورباتشوف من كل سلطاته تقريبا مقابل الإفراج عنه.
ولم تكد تمضي 6 اشهر على تلك الحادثة حتى أقيل غورباتشوف وحظر الحزب الشيوعي وبدأت روسيا في السير في اتجاه جديد وغير معروف.
رغم ذلك، احتفظ ميخائيل غورباتشوف بالاحترام في شتى أنحاء العالم، ولكن سمعته وشعبيته في روسيا ذاتها لم تتماثل ابدا. فعندما ترشح للرئاسة في عام 1996، لم يفز الا بأقل من 5 بالمئة من الاصوات.
وحلت بغورباتشوف مأساة شخصية في عام 1999 عندما توفيت زوجته رايسا بعد ان أصيبت بسرطان الدم.
عندما توفي الرئيس بوريس يلتسين في عام 2007، قاد غورباتشوف المؤبنين للرجل الذي أطاح به، وكان غورباتشوف منتقدا قويا للرئيس فلاديمير بوتين الذي اتهمه بترأس نظام قمعي، وقال بهذا الصدد “إن الحياة السياسية (في روسيا) تتحول بشكل متسارع الى ديمقراطية زائفة يحمل فيها الجناح التنفيذي (الرئيس) كل السلطات.” ولكنه دافع من جانب آخر عن الاستفتاء الذي ضمت روسيا بموجبه شبه جزيرة القرم الاوكرانية في عام 2014.
وقال غورباتشوف آنذاك “بينما ضمت القرم الى اوكرانيا في الماضي اعتمادا على القوانين السوفيتية – أي قوانين الحزب – دون الرجوع الى الشعب، الآن الشعب نفسه قرر اصلاح ذلك الخطأ”.
وأعتقد ميخائيل غورباتشوف، ذلك السياسي الواقعي والعقلاني، أن بامكانه إصلاح الاتحاد السوفيتي (الذي لم يفتر ايمانه به) دون تدميره، ولكن في سعيه للاحتفاظ بالسلطة المركزية للنظام الشيوعي، فات غورباتشوف ان الملايين من المواطنين – سواء في الاتحاد السوفيتي ام خارجه – قد ضاقوا ذرعا بالنظام.