زاوية مينا
دخل العراق وبقوّة على “تسوية ما، بين سوريا و تركيا”، مستثمِراً في التحوّلات التركية إزاء موقفها من النظام في دمشق، أما اندفاعة العراق للعب دور بعد أن غابت عن “كل الادوار” منذ سقوط بغداد بيد الأمريكان، فربما يعود إلى الخريطة التي يقرأها محمد شيّاع السوداني رئيس وزراء العراق.
فبالنظر إلى الخريطة بالعين العراقية فإن المنطقة السورية الواقعة بين منطقة “قسد” والمنطقة التي يسيطر عليها جيش النظام السوري، تظهر من حينٍ إلى آخر جيوبٌ لتنظيم “داعش”، الذي يخشى المسؤولون في بغداد عودته في حال استطاعت هذه الجيوب التّواصل مع مئات المُقاتلين المُعتقلين في مُخيّم “الهول” الذي يقع تحت سيطرة قوّات “قسد”.
ذلك أولاً أما عن ثانياً فإنّ المنطقة التي يُسيطرُ عليها المُسلّحون الأكراد في سوريا تُعتبرُ ملاذاً لحزبِ العُمّال الكردستانيّ المُصنّف إرهابيّاً في تُركيا، والمحظور في العراق.
وقد وصلَت معلومات استخباريّة إلى أنقرة ودمشق تُفيدُ أنّ جهاز الموساد الإسرائيليّ ينشطُ في الآونة الأخيرة في نقل السّلاح من أوكرانيا إلى المُسلّحين الأكراد في شرق سوريا، وذلكَ بهدف “القصاص” من موقف تركيا من الحرب على غزّة، ودعم دمشق لحزبِ الله في لبنان عبر تدفّق السّلاح إليه عبر أراضيها.
هكذا باتَ من الممكن القول إنّ قرار السّوداني التّوسّطَ بين إردوغان والأسد يُعبّر عن قلقٍ أمنيّ عراقيّ له أبعاد سوريّة وتُركيّة. وصارَ لدى المسؤولين في بغداد قناعةٌ راسخة أنّ عدم بسط السّيطرة السّوريّة على هذه المناطق ستُبقيها في دائرة “القلق الدّائم”، وهذا يُحتّم تسوية الخِلافات بين أنقرة ودِمشق. كما أنّ هذا الأمر، بالنّسبة لبغداد، فيه مصلحة ثُلاثيّة.
في المعلومات أنّ مُستشار الأمن الوطنيّ في العراق قاسم الأعرجي تواصلَ بعد زيارة رجب طيب إردوغان بغداد مع رئيس هيئة الاستخبارات العامّة السّوريّة حُسام لوقا، ورئيس جهاز الاستخبارات التّركيّة إبراهيم قالن، وتقرّرَ عقد لقاءٍ ثُنائيّ على المستوى الأمنيّ بين الجانبيْن في بغداد، من دون حضور طرفٍ ثالثٍ.
عملياً تمضي العجلة بين سوريا وتركيا قدماً، لكن ببطء. فالجانبان مُثقلان بالخلافات المُتراكمة منذ أن أعلَنَ الرّئيس التركيّ دعمه للثّورة السّوريّة، ونيّته “الصّلاة في المسجد الأمويّ الكبير في دمشق”. ووصلَت الخلافات إلى حدّ الصّدام العسكريّ المباشر، ولو بشكلٍ محدود، في مناطق الشّمال السّوريّ.
كل الإشارات تقول بعودة العلاقات ما بين دمشق وأنقرة، غير أن حسابات البيدر قد تختلف عن حسابات الحقل، فمعطيات البيد تفيد بـ :
تخلصُ التّقديرات في سوريا إلى أنّ الشّمال السّوريّ، الذي خرجَ عن سيطرة النظام منذ 2012، باتَ أرضيّة سياسيّة – أمنيّة – اجتماعيّة مُعقّدة. ذلكَ أنّ تُركيا كانَت الأساس في تشييد مُجتمعٍ مُعارضٍ للنّظام، يتعامل بالعملة التّركيّة، وتنتشر فيه المدارس التّركيّة، ويتداول البضائع التي تعبر الحدود، وصارَ كأنّه “دويلة تركيّة” قائمة بحدّ ذاتها، مع شرطة وجيش وبنى تحتيّة. وهذا يستدعي السؤال:
ـ نحو أيا مآل ستذهب هذه المنطقة؟
تُريدُ دمشق من أنقرة التزامات واضحة بتفكيك هذه البنية المُعقّدة. تدخل في هذا الإطار أحداث الشّمال السّوريّ قبل يوميْن، والصدامات بين المواطنين السّوريين والجنود الأتراك، التي وصلَت إلى حدّ إحراق العلم التّركيّ.
تابَع المعنيّون في دمشق باهتمام مشاهد التّظاهرات الأخيرة التي اندلعت في الشّمال ضدّ “هيئة تحرير الشّام” (جبهة النّصرة سابقاً) وزعيمها أبي محمّد الجولاني. لكنّهم في الوقت عينه كانوا يُراقبون ما يحمله المُتظاهرون من أعلامٍ وراياتٍ تدلّ على أنّهم لا يزالون في المقلب المُعارضِ.
في المُقابل، لا تبدو شروط أنقرة أكثر ليونةً من شروطِ دمشق. وذلك لسبيين أساسيَّين:
يُريدُ الأتراك ضمانات أمنيّة واضحة حولَ من سيتولّى الأمن في المناطق التي يتمركز فيها الجيش التّركيّ قربَ الحدود التّركيّة – السّوريّة. إذ يقلق الأتراك من تمركز ميليشيات موالية لإيران على حدودهم. ويُفضّلون أن ينتشر الجيش السّوريّ بضمانات روسيّة.
ـ يطرحُ الأتراك ضرورة أن تُقدّم دمشق خطوات سياسيّة جدّية، تشملُ:
– تعديلات على الدّستور السّوريّ.
– إجراء انتخابات عادلة وشاملة في سوريا تضمّ كلّ أطياف المُجتمع.
– تشكيل حكومة جديدة تُمثّل جميع السّوريين.
– ضمان أمن اللاجئين السّوريين الذين سيعودون إلى بلادهم من تركيا.
وكلها شروط سيرفضها نظام الأسد، إذ أن رئيس النظام السوري يتعامل مع أردوغان من موقع المنتصر، والمنتصر هو من يضع الشروط لا من يتلقاها.
والحال كذلك، هل يلوي الأسد ذراع أردوغان، أم تنجح الوساطة العراقية في ردم الهوة ما بين الرجلين؟
كل الواضح من غموض الصورة أن أردوغان يردد:
ـ كان لي صديقاً اسمه بشار الأسد.
ثم يؤكد على علاقة عائلية تربطهما متنازلاً عن قسمه السابق بأن يُصلي بالجامع الأموي بعد رحيل بشار.