مرصد مينا
العالم تغيّر، هو الأمر كذلك، ولكن التغيير لابد طال رؤوسه، وتعبيراً عن التغير إياه:
ـ هل يمكن المقارنة ما بين جو بايدن المطل من الكابيتول وبين دوايت آيزنهاور بطل النورماندي، وكلاهما يحمل السرّ الإلهي لحكم العالم؟
بل هل بالوسع المقارنة ما بين ديفيد بن غوريون الذي أعلن وثيقة الدولة ووزير دفاعه موشيه دايان، وكل من بنيامين نتنياهو برفقة يؤاف غالانت وزير دفاعه؟
الإسرائيليون لا يرغبون بالمقارنة، حتى أن ثمة من الإسرائيليين من يعتقد بـ “غروب آلهة إسرائيل” ومع غروبهم غروب الدولة “القابلة للزوال”.
سيكون إلى جانب قبائل إسرائيل الجديدة أمراء تجمعات هم رِجل هنا في إسرائيل ورِجل هناك في ملجأ آمن من الضربة، من القنابل وتنغيصات الحياة.
ران أدليست المحرر في معاريف الإسرائيلية، ينبئ قراءه بـ “كل هذا الخير سيحصل بعد الحرب”. والخير هنا هو “الزوال”، فوفقه ونعني “أدليست” ثمة من يتساءل:
خمنوا من سيكون رأس الحربة الذي سيدير الصراع ضد المستوطنين؟ الحريديم، أولئك الذين يهدد المستوطنون واليمين البنغفيري احتلال شبابهم؟
ثمة عامل آخر في تقويض الرؤيا الاستيطانية، وهو رفض الجيش والجمهور إدارة الحروب الدائمة نيابة عنهم. في هذه الأثناء، تجمع الدولة الحالية نقاط اللاعودة لدولة ليبرالية – ديمقراطية. إسرائيل، التي كانت على أي حال نصف ديمقراطية عقب الاحتلال، ستفقد النصف في صالح حكم الظلام ليمين مسيحاني وحريدي وشعبي وجماهير من معتمري “الكيبا” التقليديين الذين يقولون “هيا نسير مع التيار، فماذا سيحصل؟”.
ما يحصل الآن هو أن قبائل الرب لن تسمح بالتقدم إلى حل وسط إقليمي أو أي حل وسط تقلل من مكانة ربهم.
إلى جانب هؤلاء، يقوم يمين – وسط تقبع في أساسه طبقة وسطى علمانية – ليبرالية (تضم أقلية دينية متنورة)، وهو يدير هذه الأيام معركة يائسة على هويته، ويدور في فقاعته على أمل صد حملة الوعي العنيفة في صيغة كهنة قبائل إسرائيل.
وسيكون يسار، بالطبع؛ كما جرت العادة. نوع من الوجود الثقافي، البهيمي، السياسي، الموضوعي والأيديولوجي خارج نطاق السيادة الإقليمية. اليسار الإسرائيلي، الذي هو اليوم رأس حربة المعسكر والذي لا يزال يمنح دولة آية الله غلافاً رقيقاً من الشرعية الحضارية، سيكون محكوماً في المستقبل بحياة رِجل هنا ورِجل هناك، وعندما تصبح فريضة (الحج إلى الهيكل في القدس) قانون دولة.
وماذا بعد؟
سيتصرف أناس التكنولوجيا العليا هنا كما يتصرف اليسار، فهؤلاء أناس المبادرة الحرة والأكاديميون المتصدرون، الذين سيكونون الموازي للحاخام يوحنان بن زكاي. هذا النموذج عاش في القدس المحاصرة قبل ألف سنة، رأى حوله تزمتاً يهودياً مجنوناً يؤدي إلى الخراب.
بالمناسبة، كل ما قيل هنا ويفترض أن يحصل في المستقبل، يسري على التقدير بأن النزاع الأخير للدولة سيكون بطيئاً في أثناء قتال الاستنزاف الذي يسحق كل حرية تفكير وتعبير. وعلى أمل ألا يبنى الهيكل على خرائب الأقصى ويؤدي إلى حرب يأجوج ومأجوج التي ستتسبب بـ “الفناء المطلق”.
لكن إذن وأعتمد على مشاغبي التلال الذين يتسللون إلى الجيش وعلى الحمى الربانية لزعمائهم – وهوب! وبينما نشكو من قرار البيت الثاني نكون قد اجتزنا نقطة لا عودة أخرى في البيت الثالث، حين أعلن بن غفير بأنه سيبني كنيساً على “جبل البيت” [الأقصى]، وثمة ميزانية للجان تبحث في ذلك.
تلك نبوءة اللاعودة، ووفق تعبير ران أدليست هي عودة إلى نقاط اللاعودة التي “ستحملنا إلى الوضع الموصوف أعلاه”.
ولابد أن الرجل يحتاج إلى برهان وهاهو يقول لنا :”هاكم قائمة نقاط لا مرد لها” إنها:
نزع شرعية دولية، وعقوبات اقتصادية وشخصية من دول رائدة، وجهاز الأمن ورئيس الوزراء في الطريق إلى “لاهاي”، والسيطرة على مؤسسات دولة مؤثرة مثل الشرطة والتعليم والمالية، وواقع يخفي تقارير ضحاياهم وضحايانا، وقبول الموت في حرب على “المناطق” [الضفة الغربية] كجزء من الحياة اليومية، وشرعية الهجرة إلى الخارج.
وبالطبع، ثمة تطبيع للتدهور الأخلاقي. مؤثر وقد يتحدث عن قتل 100 ألف فلسطيني (بما في ذلك عشرات آلاف الأطفال كضرر جانبي) كخطوة بداية للحرب – وسيرتفع أجره من 50 ألف شيكل في الشهر إلى 100 ألف، والسجانون (مقاتلون أبطال، كما يقال) زقوا عصاة في دبر سجين استعراضاً لسادية متخفية في صورة وطنية.
بقيت جزر صلاح هنا وهناك تهدد الائتلاف بحملها إلى نقطة اللاعودة؛ السيطرة على جهاز القضاء صدت (مؤقتاً)، والجيش الإسرائيلي لم يحتل عن كامله بعد، ووسائل الإعلام تخوض معارضة أخيرة، والأطباء اليهود لا يزالون يعالجون العرب والأطباء العرب يعالجون اليهود.
نقطة اللاعودة الأكثر مصيرية منها كلها هي المس بوحدة الصف الداخلي في زمن القتال، واجتياز نقطة اللاعودة الأخطر منها جميعها هو التعريف المهزوز لأهداف الحرب. فصراع جهاز الأمن ضد نتنياهو وشركائه هو على الصندوق كله: جهاز الأمن مع الديمقراطية، مع الصفقة، مع عودة نازحي الغلاف والشمال في ظروف تسوية أمنية وضد ضحايا العبث. مقابلهم كابنيت من الإمعات والمحبين لإشعال النيران مثل بن غفير، الذي ينضم إلى كمين خرائط نتنياهو و”يطالب” بالبقاء في محور فيلادلفيا.
هو التآكل من الداخل، وهو ما ينشأ عن الصراع الإسرائيلي الداخلي عبر وجود جنود يقتلون ويُقتلون ضد إرادتهم وفكرهم، الأمر الذي هو أيضاً مصلحة أمنية وأيديولوجية لما لا يقل عن نصف مواطني الدولة (اليوم) الذين يعلق غير قليل منهم وكفيلون بأن يعلقوا في خط النار.
مثلما يبدو هذا ونعيشه اليوم، والكلام لـ “ران أدليست” لا يمكن لنا أن نتجاهل الشرخ الذي بدأ يتشكل من فوق، في القيادة الحزبية والسياسية في طريقه ليكون صدعاً يصل حتى آخر الجنود، صدعاً يهدد أن يصبح هوة ستبتلع كل ما بني هنا. حرب متعددة الساحات تجمع اليوم زخم الاحتمال ستخلف وراءها أرضاً محروقة، لن ينبت شيء من بقايا بشر إسرائيليين وفلسطينيين ولبنانيين وسوريين. من هناك سنكون لاحقاً متعلقين برحمة الولايات المتحدة وأوروبا ويهود العالم. أعداؤنا – جيراننا، سيكونون متعلقين برحمة إيران ودول الخليج والجالية الفلسطينية في العالم.
لمحة أخرى من الواقع، وفي يوم عاصف قد يرى الإسرائيليون بقاياهم وبقاياهم يهاجمون شاحنات دقيق الوكالة. نعم نعم، سرعان ما سيقولون نملك قنبلة. وبالفعل عن هذا يتحدث إسرائيليون. ليكونوا في الطريق إلى اجتياز نقطة اللاعودة، في التدحرج إلى حرب متعددة الساحات مع قيادة مجنونة تماماً.
قنبلة مجنونة، سيكون هذا هو الخيار الأخير، أما عن القنبلة المجنونة فلابد ستطال الجميع بمن فيهم مطلقوها، لتكون النتيجة هي الصيغة الهرقلية تلك التي تحكي عن تدمير المعبد على من فيه.
ـ يعني قنبلة الزوال.
العرب يخافون إسرائيل، تلك حقيقة، سوى أن ثمة حقيقة أخرى:
ـ وكذلك الإسرائيليون يخافون إسرائيل.