متى أخذت هندسات الشرق الأوسط تستعيد ترتيباتها؟
حتمًا على أعقاب 11 أيلول، أما 11 أيلول فقد انطلقت من افغانستان، لتشكل المحطة الأولى في تلك الهندسات وقد تضمن حكًما غزو العراق.
وهاهو الوقت وقد أكل من عمر العالم عقدين من الزمن، لتعود طالبان إلى أفغاستان وكأنك يابو زيد ماغزيت، ومن محاسن الأمريكان أنهم يتقنون الاعتراف، فقد اعترفوا ذات يوم بهزيمتهم في فيتنام وصولاً لبناء متحف لضحايا حرب فيتنام في بلادهم، وهاهم اليوم يعترفون بالهزيمة في أفغانستان وعلى لسان رئيسهم جو بايدن وقد فشلوا في انجاز “السلام الأمريكي” في تلك البلاد أو في إقامة دولة قومية مستقرة ومجتمعات حديثة وديمقراطية، وذلك حسب نموذج إعادة بناء ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية.
الإسرائيليون يبدون اكثر تعقلاً في قراءة وقائع التحولات الأفغانية ربطًا بالسياسات الأمريكية، حتى أن معاريف تقولها بالفم الملآن بأن الخطوة التي بدأتها الولايات المتحدة في أفغانستان قبل عقدين ومن ثم في الشرق الأوسط فتحت عملياً عدداً لا يحصى من صناديق المفاسد للكراهية بين الطوائف والأديان في المنطقة، وأثارت حروباً مضرجة بالدماء وكانت محفزاً لـ”الربيع العربي” الذي نشب بعد بضع سنوات من مشاهدة جموع هذه المنطقة إعدام صدام حسين، الأمر الذي شقق الخوف العميق من الحكام الطغاة في العالم العربي.
كلام بالغ الخطورة تحكيه معاريف الإسرائيلية وعلى لسان ميخائيل ميليشتاين وقد تابع الكتابة لصحيفته القول أن “الفشل الأمريكي في أفغانستان” يشكل دليلاً على المصاعب لدى أصحاب القرارات ومصمميها في واشنطن بفهم الثقافات المختلفة، ولا سيما في العالم الإسلامي.
ما هي الأخطاء الأمريكية التي يشير اليها الرجل؟
لقد أخطأوا غير مرة في سحب منطقهم على “الآخَر”، وفي محاولة فرض قيم وأنواع من النظام تطورت على الخلفية الاجتماعية والثقافية والسياسية الخاصة بالغرب. هذا تراث يعود لعشرات السنين يتضمن محطات، مثل: تجربة روبرت مكنمارا وزير الدفاع الأمريكي في حرب فيتنام، وفي إدارة المعركة وفقاً لعقيدة هندسة الصناعة والإدارة؛ ومساهمة كارتر في انهيار نظام الشاه في إيران من خلال الضغط لمنع قمع الاحتجاج ضد حكمه؛ وخطاب القاهرة في 2009 حيث انتقد أوباما غياب الديمقراطية في الشرق الأوسط؛ ومؤخراً “صفقة القرن” لترامب التي سعت لحل مواجهة عاطفية قديمة ومعقدة بأدوات “تجارية”.
تلك مايسميها بـ “الأخطاء الأمريكية” وربما كان الأجدى أن يصفها بالخطايا، وهذه النتائج أمامنا، فالانسحاب الأمريكي من أفغانستان لايحمل سوى الأنباء السيئة.. أنباء سيئة لإسرائيل وكذلك أنباء سيئة للعالم العربي السُني.
كيف سيكون ذلك؟
صحيح أن الولايات المتحدة تحافظ على نفوذها في المنطقة، ولكنها تبدي دافعاً متدنياً لتصميمه، وتفضل الخطاب الدبلوماسي وتركز على الحفاظ على المصالح الصرفة. فالانسحاب هذا يعكس صحوة يائسة للأمريكيين من المعركة على “العقول والقلوب” لأبناء الشرق الأوسط. هذا أولاً وثانيًا فمن شأن سياسة واشنطن أن تقوض صورتها في نظر لاعبين مثل روسيا الصين وإيران، وتعزز جرأتهم على تحقيق خطوات استفزازية، وتشجيع محافل متطرفة مثل “القاعدة” لترفع رأسها من جديد، وبالمقابل تعميق خوف حلفائها القدامى في العالم العربي من فقدان سندها الاستراتيجي. كل هذا يحصل بعد عقد من “الربيع العربي”، حين تكون المنطقة أكثر تضعضعاً من أي وقت مضى، وكل شرارة داخلية قد تتسبب بتقويض النظام في بؤر مختلفة فيها.
إن التغيير في الوعي لن يكون قابلاً للتحقق. فتحولات دراماتيكية كهذه تتحقق ليس من خلال إنفاذ القانون، وعلى ما يبدو أيضاً ليس من خلال تغييرات اقتصادية – اجتماعية، بل في أعقاب تغيير في عموم المراكز التي يتصمم فيها الوعي في الشرق الأوسط – المؤسسة الدينية، وسائل الإعلام وجهاز التعليم – والتي يعد التغيير فيها في معظم المنطقة محدوداً وبطيئاً للغاية في هذه اللحظة على الأقل.
الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، سيلاقي حصاده، وربما قريبًا بل وقريبًا جدًا فمع موت الحمير تفرح الكلاب الشاردة، وبلا شك فموت الحمار في أفغانستان، سيفرح الكلب الإيراني الشارد.
للمرة الثانية تهب الولايات المتحدة حصادها للإيرانيين:
ـ المرة الأولى وقد سلمتهم بغداد.