fbpx
أخر الأخبار

حروب ما بعد الحروب

هي الحروب، وبكل أشكالها تعني “القتل”، غير أن حروبًا “نظامية”، بين دولة ودولة وجيش وجيش، تنتهي على مائدة المفاوضات والتسويات، ويفرض فيها الغالب شروطه على المغلوب.

هذا عن الحروب، ولكن الاخطر من الحروب، تلك التي لاجيوش فيها تحتكم إلى المفاوضات والتسويات، لتحمل حروبًا لاحقة للحروب، هي الأشد  بشاعة من الحرب الأم.

يحدث ذلك في حروب تنتهي لسطوة العصابات والميليشيات على الدولة المحاربة، فيغيب عنها النظام، وتتحول فيها إدارة البلاد إلى الفراغ، فيصير القانون مملوكًا للغرائز المنفلتة، وللثأر والثأر االمضاد، وهذا ماشهدته دولاً أفريقية عديدة، وتشهده دول عربية اليوم، كما ليبيا وسوريا واليمن، لتكون الغلبة فيها لسوريا حيث حروب الزواريب ما بعد أن لم يتبق سلطة لجيش وطني، ولا مرجعية تحكم بلدًا انفلت من فيه على من فيه، تتقاسمه اعداد لاتحصى من الميليشيات والعصابات، لتدير آلة القتل فيها، مانعة الدولة من استعادة الدولة، وقد تكون محافظة السويداء السورية وسيلة إيضاح لاتقل دموية عن سواها من وسائل الإيضاح السورية.

منذ انطلاقة احتجاجات 2011 ومن ثم تحويل الاحتجاجات إلى انتفاضات ومن ثم إلى السلاح، اشتغلت هذه المحافظة على تحييد نفسها بحثًا عن صيغة لتلافي الخراب، فامتنع أولادها عن الخدمة الإلزامية، واشتغل سكانها على احتواء النازحين من الجوار، وفي غياب السلطة المركزية أو تراخي قبضتها، اشتغلت أجهزة الاستخبارات أول ما اشتغلت على استيلاد ميليشيات مسلحة، قوامها شباب تائهون، عاطلون عن العمل، هامشيون، منحطون بمعايير القبيلة، ومتخلفون بمعايير المدينة، وقادرون على الإيذاء بكل المعايير، فكانت النتائج، سطوتهم على حياة الناس، وأعراض الناس، وارزاق الناس، وسط صمت ما تبقى من سلطة الدولة، وبتشجيع وتمويل من اجهزتها، فبات الخروج من المنزل، مجرد الخروج مجازفة، وامتدت يد الميليشيا لتحتل مكان الدولة، ومعها بات الخطف صيغة، والقتل صيغة، والاغتصاب صيغة، وانزاح العقلاء عن إدارة مدينتهم وقراهم، حتى باتوا مهدددين أسوة ببقية الناس، ما جعل أحوال المدينة اكثر بؤسًا حتى من المدن التي خرّبتها نيران النظام واكملت عليها نيران الفصائل المسلحة وقد باتت الوجه الآخر للنظام ووريثة استبداده.

ماحل بهذه المدينة بات اليوم اكثر بؤسًا من المدن الخربة، فالخراب يطاله إعادة الإعمار، أما الخراب الثاني فلا إعادة إعمار له، وقد باتت دماء الجار على يد جاره، وبات الكل في صراع مع الكل، وهو صراع ممول مرة من اجهزة الاستخبارات ومرات لاتحصى من المجهول، وبين المعلوم والمجهول تاهت الناس، وباتت الحياة مجرد “ضربة حظ” فيما الموت على مفارق الطرقات.

هي حروب ما بعد الحروب.. الحروب الاكثر شراسة، الاكثر دموية، والاكثر انحطاطًا من بقية الحروب.

يغيب العقل، تنفلت الغرائز، وعلى نوافذ البيوت ثمة بنادق للإيجار وقناصون يعرفون كيف يصوبون إلى ماتبقى من حياة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى