fbpx

في مسألة التصالح المجتمعي

تكون البداية من التفسير الدستوري لحرية العبادة لمختلف الأديان والطوائف والمذاهب، وإتاحة باب الحوار بين الجميع في البلد الواحد مسألة إيجابية لكنه يبدو محض مدخل نحو مناقشة فكرة التصالح المجتمعي الذي نرى أنه يقوم على أساس إعادة تفسير مسببات الإشكالية الدينية أو الاجتماعية أو السياسية، وانطلاقاً من ذلك فإن إعادة بناء التفسير الديني للإشكالية المجتمعية هو الأمر الجوهري، وعندما نؤسس بحثناً على أصل الإشكالية التي نمر بها وأسبابها، نتيح فهماً أفضل، سوف يساعد في تخطي المشكلة التي نعانيها. أولاً: من المنظور الديني إن عزل الإسلام السياسي أو تطويقه يبدأ من خلال تفسير خطورة فكرة (التمايز التي ارتكز عليها الإسلام السياسي) التي غادرت الإطار الحزبي وتحولت إلى مادة مجتمعية متداولة، تعمل على إرسائها مختلف القوى المتطرفة، لأنها تدرك تماماً أنها سوف تذوب ما لم تحافظ على هذا التمايز في أذهان الناس. جوهر فكرة التمايز يقوم أصلاً على إلغاء دور التصالح المجتمعي الذي يعني قبول الجميع بالجميع تحت سقف القانون، وبتفصيل أدق، فالمجتمعات الإسلامية بعمومها التي لا ينشط فيها الإسلام السياسي ما تزال تعيش ومنذ مئات السنين، وتحمل في طياتها تعايش الجميع، وتنظر إلى مسألة العبادات بمنزلة نوع من العلاقة بين الإنسان وخالقه، ولم يخرج الإطار الاجتماعي عن هذا التفسير، وهذه المجتمعات تتعامل مع مختلف الطوائف على القاعدة ذاتها التي تعني أن هناك خالقاً فُوِّضت الأمور إليه وهو المسؤول عن المحاسبة، وعن تصرفات الأفراد ومعتقداتهم. في ما يتعلق بفكرة الإسلام السياسي التي تقوم على تمايزه عن الآخرين، وتقديم نفسه مصححاً لمسار المجتمع الديني والسياسي والاجتماعي، فتجد أن هذا التيار لا يستوطن في أرض، إلا وقام بتحويل بنيته الحزبية إلى كتلة متمايزة تمارس في عقلها الباطني فكرة إطلاق الأحكام على بقية أفراد المجتمع، مسلمين وغير مسلمين، وهنا تماماً تتجسد الأزمة، فقد أقدم الإسلام السياسي على إلغاء فكرة التفويض للإله الخالق، وأصبحنا في مواجهة فكر جديد، هو الذي يحكم على الناس ومعتقداتهم، وأصبحنا اليوم أمام القاضي الموجود على الأرض الذي ربط بين الدين والسياسة ورؤيته الحزبية معاً، ما جعل كامل الإطار الخارج على هذا الحزب هو في قائمة المتضرر، سواء من مسلمين أم غير مسلمين. كل من ينتمي إلى حركة دينية تمارس العنف يمارس توجهاً سياسياً بثوب ديني، وإذا كان (الإخوان المسلمون) هم أول من أسس هذا الإطار الحزبي، فإن القاعدة وداعش امتداد إخواني من حيث فكرة محاكمة البشر جميعاً وتقديم أنفسهم قوى متمايزة، ما يعني الغاء فكرة التفويض الإلهي ومحاسبة الناس على الارض، لذا، إن إعادة تأهيل البنية التربوية للجيل الحالي مدخلها في المستوى الديني في إعادة مفهوم التفويض الإلهي بين المجتمعات التي تضررت بوجود فكرة تمايز الإسلام السياسي. ثانياً: من المنظور الاجتماعي فالدولة القومجية أو العسكرية، أو المستبدة تمارس مفهوم التمايز من خلال إرساء الفروقات المجتمعية بين فئات المجتمع وعبر مختلف الجوانب، حيث تعتصر العاصمة مختلف المدن، كما تعتصر المدن بقية الأرياف. ففي جانب معين تعمل الدولة على تقديم الفرص لطبقة وشريحة ومدينة معينة، ما أرسى تمايزاً بين عالمين متجاورين، يعيش أحدهما على الآخر، في الوقت الذي لا يستغني فيه أحدهما عن الآخر. هذا التمايز في سلوك الدولة لا يبقى في حدود الماديات، وإنما يمس الجانب الإنساني والنفسي، ما قد يتجسد في أمنية أبناء الريف أن يتمكنوا من تجاوز ظاهرة (التنمر في الجامعات) أو مراكز العمل لأسباب تتعلق بالمظهر العام أحياناً، وإذا نظرت نحو سوريا، فكم ألف طالبة جامعية فشلت في الاندماج في الحياة الجامعية في سوريا، ونحن لا نتحدث عن ارتداء أبناء الريف الشباب (التنوره) كما في اسكوتلندا، لكن ثقافة الإقطاعي الذي ينظر إلى الريف نظرة قاسية، هي ما يدفع الريف إلى التعلق بأي قوة تعده بالانتصار لذاته. نحن لا نتحدث عن اندماج السوريين أو غيرهم من اللاجئين في الدول الأجنبية، بمقدار ما نتحدث عن الاندماج داخل البيئة الاجتماعية والثقافية والسياسية الواحدة، ما يستوجب إطاراً تربوياً يقوم على قاعدة واحدة، وهي التربية التعليمية العامة المشتركة للجميع. ثالثاً: من المنظور السياسي، بعيداً عن فكرة عدد الوزراء والمديرين وغير ذلك في إطار الدولة، إن أكبر معضلة سياسية، غائبة عن الجميع هي معضلة التمايز في الخدمات، والخدمات تشمل مستلزمات المواطنين كلها التي تقوم الدولة بتقديمها للمواطنين على أساس الولاء السياسي وحده، ما يخلق حالة التمايز بين المدن والأحياء والحارات، ومن خلال هذه المعادلة البسيطة، لدينا مئات الأحياء المهمشة التي تدفع بالأجيال نحو التفكير السلبي، ما يجعلنا ننظر إلى كيفية إعادة التفكير الإيجابي للشارع والمجتمع، فضلا عن صناعة القوانين التي تمنح فرصة النهوض واكتساب المهارات، وهي مسائل عالقة في العقل السياسي، تعيدنا إلى فكرة دولة القانون، وإتاحة الفرصة للجميع ولو نسبياً. التمايز هو مسألة قابلة للحل، ومن المؤكد أنه لن تكون هناك بداية ناجحة من دون وجود قوانين قابلة للتنفيذ، غير أن القوانين إذا مورست جبرياً لن تستطيع بمفردها تغيير المجتمع بالكامل، فالمطلوب إضافة إلى النظم والقوانين التي تتيح هذا التصالح هو السير نحو خطة تصالح مجتمعي تسير عبر مسارات ثقافية واجتماعية شاملة، من أجل الوصول إلى نتائج مرضية. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى