fbpx

قضية مقتل طلعت باشا ومآسي الشعوب؛ مأساة الأرمن مثالاً

لا يمكن أن تختزل مأساة شعب بسطور ولا كلمات، لكن لا بد من تسليط الضوء على ما مرت به شعوب المنطقة من عذابات وآلام ومحن. مسألة إبادة الأرمن أمام المحكمة، أو قضية (طلعت باشا) في تفاصيل إبادة الشعب الأرمني أمام المحكمة في برلين/ ألمانيا. عنوان الكتاب الأصلي: Der Völkermord an den Armenien vor Gericht (Der Prozess Talaat Pascha). مصدر الكتاب مأخوذ من جلسات المحاكمة الجارية في برلين في الثاني والثالث من حزيران/ يونيو عام 1921 وصدرت الطبعة الأولى من الكتاب في العام ذاته باللغة الألمانية، وأُعيدت طباعته عام 1980 بمناسبة مرور خمسة وستين عاماً على وقوع المجزرة ليلة 24 نيسان/ أبريل عام 1915، قام بترجمة الكتاب السيد غسان نعسان وجرت مراجعته من السيد فاضل كريم أسعد وصدر عام 2008، بلغ عدد صفحات جلسات المحاكمة أربعمئة صفحة، إذ قام بتدوين تفاصيلها كاتب المحكمة، المراقب الحقوقي ((فارمبورغ))، فضلاً عن ذلك يتضمن الكتاب إفادات بعض شهود القضية وبرقيات ومراسلات من حكومة الاتحاد والترقي تقضي بترحيل الأرمن من أماكن سكنهم وزجهم إلى الجنوب حيث الصحراء وكذلك صور تبين فظاعة المجازر. يتناول الكتاب قصة شاب أرمني يُدعى (سوغومون تهلريان) الناجي بأعجوبة من هذه المذبحة التي طالت أفراد عائلته في قافلة التهجير، بعد أن أصدر وزير الداخلية لدى حكومة الاتحاد والترقي (وطلعت باشا) قرار ترحيل قريتهم من أرزروم، حيث شاهد الشاب مصرع أخيه الأكبر ببلطة فجت رأسه وكذلك شقيقته المتزوجة وطفلتها الرضيعة ووالدته ووالده وشقيقته الصغرى البالغة من العمر ستة عشر عاماً التي كانت تمسك بيده، ثم اقتادها ولم يسمع سوى صرخاتها. وتعرض هو لضربة في رأسه وأُغمي عليه وخرَّ صريعاً وبعد فترة استعاد وعيه ليجد نفسه غارقاً في الدم، لم يميز أهو دمه أم دم أخيه الملقى فوقه، سار سوغومون بين حقول الجثث وميز جثث عائلته وسار هائماً على وجهه. قادتني إفادة الشاب، إلى ما حدث مع الصديق ((عبد الله ب)) الناجي من مجزرة كلية المدفعية في حلب التي وقعت في التاسع عشر من شهر حزيران/ يونيو عام 1979 التي ارتكبها الضابط ((ابراهيم اليوسف))، إذ استفاق عبد الله من غيبوبته وزميله ملقى فوقه ولم يميز دمه من دم زميله ليسير على وجهه بين بساتين الزيتون ليعثر عليه أحد فلاحي المنطقة. لن أنسى صراخ عبد الله الذي كان يستيقظ مذعورا في الليل متكوراً على ذاته، على الرغم من مرور قرابة عشر سنوات على هذه المجزرة إلا أن الكوابيس ما زالت تلاحقه. كذلك ((سوغومون)) سار حيث قرية كردية دخل أحد بيوتها وجرت معالجته من قبلهم وأعطوه اللباس والزوادة بعد أن شُفيت جروحه واستعاد عافيته، وطلبوا منه المغادرة لأنهم لا يستطيعون تحمل عواقب إيواء أي أرمني. أعادني سوغومون بالذاكرة إلى جدتي الأرمنية لأمي التي قضت عمرها بصمت وهي تنتحب أخاها الذي لا تعرف عنه شيئاً ولا في أي أرض هو، أهو فوق التراب أم في بطون وحوش البراري، أم أصبح طعاماً سائغاً لأسماك نهر الفرات حيث كانت تُلقى جثث الضحايا. جدتي التي ماتت باكراً مريضة بالقلب وأورثتني العلة ذاتها هي أيضاً عندما تزوجت من جدي كانت ما تزال في السادسة عشر من عمرها، بعد أن عثر عليها هائمة على وجهها، تُرى ما الذي تعرضت له تلك الصبية وماذا حل بها، ما شعورها، وهي تتزوج كمغتصبة لتتغير كل حياتها وتنقلب رأساً على عقب؟ أخذتني وقائع هذه المحكمة إلى الطفل ((حمزة الخطيب)) الذي قتله جند بشار الأسد ومثلوا بجثته أبشع تمثيل أسأل نفسي هل مثلوا بجسده اليافع بعد موته أم أنهم أجهزوا عليه من شدة العذاب، هل قطعوا قضيبه وهو حي أم بعد أن فارق الحياة؟ ((فالشاة لا يهمها السلخ بعد الذبح)). رُبَّ قائلٍ إن الأرمن حاولوا الاستقلال شأنهم شأن دول البلقان وبلغارية التي تخلصت من رجس السلطنة العثمانية المنقرضة والدولة التركية الحديثة من بعدها، الطامحة إلى المحافظة على الدول التي سبق واستعمرتها، فهل الشعب الأرمني كله الذي تعرض للذبح والتشريد بأطفاله ونسائه وشيوخه كلهم ارتكبوا خيانة الدولة التركية؟ هل عائلة تهلريان البسيطة ساهمت أيضا في تلك الخيانة؟ فوالد سوغمون كان يعمل في التجارة ويحيا حياة بسيطة وهادئة ولا شأن له بالسياسة ولا الاستقلال، كما تحدث محامي الدفاع. فهل أطفال الغوطة الشرقية وغيرها ونساؤها الذين قضوا اختناقا بالغازات الكيماوية التي أطلقتها مدفعية الأسد وطائراته كلهم ((إرهابيون)) ليشن عليهم حربه المقدسة؟ هل أهالي قرية حلبجة الكردية الذين قضوا أيضاً اختناقاً بالغازات السامة عام 1988 كلهم ارتكبوا الخيانة وتعاونوا مع العدوان الإيراني ضد الجيش العراقي؟ وهل كل كرد العراق حاولوا اغتيال المهيب الركن صدام حسين لتنفذ بهم مجزرة الأنفال؟ ماذا سيقول محامو الدفاع فيما لو ظهر سوغومون السوري لينفذ فعلاً مماثلاً لطلعت باشا السوري من الأسد وزمرته القاتلة؟ هيئة الدفاع في قضية سوغومون الأرمني لم تكن تدافع عن المتهم الشاب ((القاتل)) لوزير الداخلية في حكومة الاتحاد والترقي الذي ارتكب فعلته ظهيرة يوم الخامس عشر من آذار/ مارس عام 1921 في أحد شوارع برلين. بل حاول محاموا الدفاع أن يدافعوا عن الشعب الألماني بدفاعهم عن سوغومون تهلريان، حيث كانت الحكومة الألمانية إبان المجزرة متحالفة مع الحكومة التركية ومن قبلها حكومة السلطان عبد الحميد، إذ كانت الحكومة الألمانية تغض النظر عما ارتكب من جرائم وفظاعات بحق الأرمن مصدقةً ما ادعته حكومة الاتحاد والترقي بأن هذه الجرائم ارتكبتها مجموعات من الرعاع الترك بالاشتراك مع الأكراد، سيما وأن الغرب كان ينظر إلى بلاد الشرق بصفة أن هذه الشعوب اعتادت على سفك الدماء وأن الإنسان لا قيمة له في هذه الأرض، وسوّق الادعاء العام لهيئة المحكمة بأن المتهم سوغومون قتل رجلاً بكل قوته وحيوته وترك زوجة مكلومة وأولاداً، قتل وزيراً لدولة تربطها مع الشعب الألماني صداقة، ولم يأخذ الادعاء العام بأن هناك عائلات كلها أُبيدت وانتهت حياتها من الوجود بأوامر من هذا القتيل وأطراف الحكومة التي ينتمي إليها لا لشيء بل ربما لأنهم يختلفون عنهم في الانتماء الديني والعرقي، لتُعلن عليهم الحرب المقدسة، لم يأخذ بالعائلات التي شُردت ونُفيت واُغتصبت فتياتها وجرى بيعهن بلا ثمن أو بثمن بخس في سوق النخاسة كما فعلت دولة البغدادي الإسلامية ((داعش)) بسبايا سنجار من ((الإيزيديات)). القاتل الشاب سوغومون هو القتيل فعلا، يموت يومياً ألف مرة، رائحة الجثث والموت تلاحق أنفاسه في كل لحظة، لم يكن يرغب مطلقا -كما جدتي- في الحديث عن المجزرة بل أراد أن يتابع دراسته حيث وصل به الترحال إلى برلين ليباشر تعليم اللغة رغبة منه في الدراسة، حاول أن يستعيد توازنه من خلال اشتراكه في دورات تعلم الرقص، لكن لم تفارق مخيلته صورة الفظاعات التي حلت بأسرته وبني قومه.. ساقته الأقدار إلى أن يلتقي بالوزير طلعت باشا في أحد شوارع برلين وتأكد أنه هو ومن ثم قام بتنفيذ فعلته والقصاص منه. في هذه القضية حاول المدعي العام أن يدفع بهيئة المحلفين إلى القول بأن المتهم سوغومون تهلريان قد ارتكب فعلته بإرادة حرة وعن سابق الإصرار والقتل العمد الذي تطاله أحكام المادة /211/ من قانون العقوبات الألماني آنذاك التي تُجرم من يرتكب فعل القتل العمد عن سابق إصرار بعقوبة الإعدام. أما هيئة الدفاع فقد أخذت بالقضية منحى آخر لتجعل منها محاكمة سياسية وتجد للمتهم مسوغات فعل القتل الذي ارتكبه، وفق المادة /51/ من قانون العقوبات التي لا تجّرم المتهم بفعل القتل بالإعدام بل تجد له الأسباب المخففة لأنه ارتكب فعلته وهو مسلوب الإرادة، فكيف يكون حر الإرادة وقد شاهد أفراد عائلته يُبادون واحداً تلو الآخر، يطارده طيف أمه المغدورة، أمام ناظره وبأوامر من هذا الوزير الباشا. فلم تكن محاكمة سوغومون محاكمة متهم بجريمة قتل، بل هي محاكمة لسلطة ولحقبة من سفك الدماء وتشريد شعب آمن على مرأى العالم الصامت، كما هو حال الشعب السوري اليوم باختلاف دوافع المجازر لكن لغايات ذاتها. تمكنت هيئة الدفاع أن تُبعد عن هيئة المحلفين فكرة الأخذ بالمادة /211/ فقال محامي الدفاع: إذا رأيتم أن المتهم تنطبق عليه المادة 211 وهو ذو إرادة حرة حين ارتكب فعلته عن عمد فماذا سنقول للعالم والناس خارج هذه المحكمة؟ فقد كانت حكومة الاتحاد والترقي ترفع عنها التهمة لتلصقها بالرعاع والكرد. ربما كان ذلك صحيحاً؛ لكن هؤلاء الرعاع والكرد كانوا يأتمرون بأمر الجندرمة وبمباركتها ومباركة حكومتها ((الاتحاد والترقي)) التي أعلنت فرماناً بأن هذه الحرب مقدسة كي يستسيغ الناس أفعال القتل والنهب والسلب والسبي. محامو الدفاع لم يدافعوا عن سوغومون للدفع ببراءته بل لتبرئة للشعب الألماني من تحالفات حكومته مع الحكومة التركية. عندما اقتنعت هيئة المحلفين بوقائع المحكمة والأدلة التي ساقها الشهود، عندما أقروا أن المتهم سوغومون لم يرتكب القتل العمد وهو حر الإرادة بل كان مسلوب الإرادة والتفكير، إنما أقروا بالبراءة للشعب الألماني الذي كانت حكومته متحالفة مع الحكومة التركية التي كانت تمدها بالسلاح والخبراء العسكريين لتدريب عسكرها. وبناء على ذلك أخذت هيئة المحكمة بالمادة 51 من قانون العقوبات ليخلى سبيل المتهم سوغومون تهلريان المتهم بمقتل الوزير لدى حكومة الاتحاد والترقي طلعت باشا، ليتحول هذا القتيل إلى القاتل الحقيقي الذي ساهم في إبادة ما يقارب مليون إنسان بأوامر منه وحكومته وتشريد من بقي منهم على قيد الحياة. تُرى كم طلعت باشا سيكون مصيره كمصير طلعت باشا فهل من محاكمة عادلة سيلاقيها سوغوموننا السوري وهل سيتسنى لهذا السوغومون القادم كهيئة الدفاع والمحلفين تلك؟ مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى