fbpx

ما الذي يجري في الجزائر؟؟

في قراءة موضوعية للوحة الجزائر الحالية لا بدّ من العودة قليلاً للوراء، بدءاً من مرحلة الاستقلال حين كانت المؤسسة العسكرية القوة الضاربة التي تمسك زمام الأمور في الحكم، وقبلها إلى مرحلة الصراعات بين الداخل والخارج، أو الحكومة المؤقتة وجيش الحدود الذي حسم الأمور لصالحه، وفرض مجيء أحمد بن بلة رئيساً بواقع وجود رئيس الأركان ـ هواري بومدين ـ كصاحب قرار رئيس، ثم الانقلاب على بن بلة لصالح بومدين، ففرض الشاذلي بن جديد رئيساً خلافاً لترتيبات وتراتبية حزب جبهة التحرير، ثم الانقلاب على الانتخابات التشريعية والمجيء بمحمد بوضياف واغتياله، فالضابط اليمين زروال، وصولاً للاتفاق مع عبد العزيز بوتفليقة الذي عاش منفياً لزمن طويل. قبول بوتفليقة تمّ بناء على جملة من الشروط التي قبلت بها المؤسسة العسكرية، وأهمها: تكريس المصالحة الوطنية وإنهاء القتال مع المجموعات الإسلامية، ومنحه بعض الصلاحيات لممارسة مهامه كرئيس للجمهورية وليس مجرد منفذ. الحقيقة أن مشروع المصالحة مع الإسلاميين بدأ العمل به منذ فترة رئاسة اليمين زروال، حيث فتح حواراً مباشراً مع قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وذراعها العسكري، ووجد بوتفليقة الأرض ممهدة للمضي قدماً في تكريس المصالحة، وتقنينه في قانون الوئام المدني، ثم في ميثاق السلم والمصالحة الوطنية، وإصدار عفو عام عن المسلحين، وتعويض أسر الشهداء والمفقودين، وقد حُسب هذا الإنجاز الكبير له، والذي مهّد له الطريق لأن يقوم بأكبر خطوة سلبية تمثّلت في تغيير دستور 1996 الذي حدد الفترة الرئاسية بخمس سنوات قابلة للتجديد لمرة واحدة، بحيث ألغي هذا الشرط وفتح الباب لنوع من رئاسة مستمرة، وسط تغييرات كبيرة جاءت على حساب تهميش أحزاب المعارضة، وتحويل بعضها إلى ملحق بالنظام، فكانت العهدة الثالثة تجسيداً لذلك التحوّل . في عام 2005، وعبر العهدة الثالثة أصيب الرئيس بمرض شديد في المعدة، قيل أنه سرطان، اضطره للغياب أشهراً في العلاج، ثم كانت الجلطة الدماغية في عام 2013 التي عطّلت قدراته على ممارسة دوره كرئيس، ومكوث فترات متلاحقة في رحلات العلاج لكل من فرنسا وسويسرا، وأثر ذلك على دوره، وعلى مراكز القوى في الحكم. لقد قيل الكثير في قدرة الرئيس على ممارسة صلاحياته، لكن الأكيد أن مرضه، وغيابه سمحا ببروز فئات نفعية حول الرئاسة يشرف عليها ويديرها شقيقه، وعدد من المقربين، ومعظم هؤلاء من الأثرياء الجدد الذين استفادوا وبطرق غير قانونية، وعبر التحايل أحياناً على القوانين باستلام قروض كبيرة جداً دون وجود ضمانات لها، وامتلاك عقارات وأراض زراعية جرى تحويلها إلى عقارات، والمضاربة في العقارات وغيرها، وقد شكّلت هذه الفئة ما يمكن تسميته كتلة الرئاسة التي حاولت منافسة نفوذ وسطوة المؤسستين الأمنية والعسكرية، وقد نجحت في إبعاد عديد الجنرالات بتحويلهم إلى التقاعد، وكان على رأسهم الجنرال توفيق (محمد مدين) رئيس المخابرات العسكرية القوي، ثم سجن خمسة منهم وفتح تحقيقات معهم. وكان الفريق أحمد قائد صالح يعتبر من المقربين، أو أحد سواعد الرئيس بوتفليقة الذي يقوم بضبط الوضع في الجيش والمؤسسة الأمنية . لكن تطورات متلاحقة أدّت إلى اختلال هذه الوضعية، ثم بدء انهيارها، ويمكن هنا التوقف عند الحراك الشعبي الذي بدأ منذ تاريخ 22 شباط/ فبراير، بما حمله من شعارات، وتصعيد، وتطور في زخمه ومطالبه، وقد وصلت أعداد المتظاهرين وفق إحصاءات أجهزة الشرطة إلى نحو 22 مليون شملت معظم فئات وفعاليات الشعب، من جميع الاتجاهات، بخاصة من الشباب، والنقابات التي تمرّدت على قياداتها النفعية، ومنظمات المجتمع المدني، وأحزاب المعارضة، وبطريقة سلمية وحضارية، وعبر تنظيم محكم، ودون اي تدخل عنفي من أجهزة الشرطة والمخابرات، أو الدرك الوطني والجيش.  أسئلة كبيرة كانت تطرح نفسها حول خلفيات، او محركات هذا الحراك الذي فاجأ كل التوقعات، وهل كان عفوياً، مثلاً ؟ أم أن جهات ما تقف وراءه، أو تعطيه الضوء الأخضر فتمنع الأجهزة من ممارسة أي نوع من القمع (إلا ما ندر) ؟؟… وفق بعض المعلومات والتقديرات بأن الإصرار على فرض ترشيح بوتفليقة لعهدة خامسة، وهو في تلك الوضعية الصحية المزرية، وسفره للعلاج في وقت حرج، وطريقة تقديم الترشيح بتجاوز شرط دستوري، وتصرفات محيط الرئيس ورائحة الفساد المنتشر، قد أفاض كأس الجميع، وأولهم ما يسمى ب”النواة الصلبة” في الجيش، الذين يتشكلون من ضباط أصحاب شهادات وكفاءات عالية، وخريجي المدرسة الجزائرية الحربية وليس الفرانكفون، كانوا يشعرون بمبلغ الإهانة التي تلحق بهم وبسمعة الجزائر جرّاء ما يجري، والذي يشبه المهزلة عبر الإصرار على ترشيح الرئيس وهو بتلك الحالة الصحية البائسة، وأن تلك النواة الصلبة، بالتضافر مع قوة الحراك الشعبي وزخمه كانت خلف تحوّل موقف نائب وزير الدفاع ـ رئيس الأركان، الذي وصف الحراك في بداياته بمجاميع مغرر بها، ثم سرعان ما تراجع ملتزماً بمطالب الشعب، فيما يمكن اعتباره نقلة نوعية في موازين القوى، وفي فرض الخطوات التالية التي تمثّلت بفرض استقالة الرئيس. الرئاسة اضطرت إلى التراجع لكن بطرق تكتيكية لم تقنع أحداً، فمن تقديم ملف ترشّح الرئيس للمجلس الدستوري بتلك الطريقة غير الدستورية، حيث يشترط حضوره شخصياً، إلى ترشّح عبر رسالة يخترق فيها الدستور بطريقة بائسة حين أعلن أنه يتعهد بالبقاء رئيساً لمدة عام، ثم وضع خارطة طريق عمّا ينوي فعله (تغييرات في الحكومة ـ إقامة ندوة وطنية ـ تعديلات دستورية ـ انتخابات رئاسية ـ منحه مدة عام). أي تكريس نفس النقاط التي وردت في خطابه حول نيته الترشّح والبقاء لمدة عام، وهو الأمر الذي أثار مختلف فئات الشعب، وأسهم في زيادة وتيرة المطالب وتشددها، خاصة وأنه ترافق مع وضوح انحياز المؤسسة العسكرية للحراك الشعبي ومطالبه. تقول بعض المعلومات المسرّبة أن النيّة كانت موجودة لعقد اتفاق بين الرئاسة والمؤسسة العسكرية، يضمن تقديم استقالته مقابل ضمانات له وللعائلة بعدم المحاكمة، وتوفير حياة آمنة لهم، لكن الرئاسة(ويتهم السعيد بوتفليقة بشكل خاص) حاولت القيام بما يشبه الانقلاب من خلال محاولة عقد اتفاق مع الرئيس السابق (اليمين زروال) بوساطة الجنرال توفيق، ونشر أخبار عن إقالة نائب وزير الدفاع ـ رئيس الأركان، وتثبيت حكومة تعتبر مرفوضة من الحراك الشعبي، الأمر الذي دفع هيئة الأركان إلى إصدار بيانها الحاسم بضرورة إنهاء وضع الرئيس حالاً، ووصف من يقوم بتلك الأعمال بالعصابة، واتهامات ثقيلة لمحيط الرئيس، بينما تتواتر الأنباء عن انتشار الدرك الوطني بقوة في محيط الرئاسة، وإقامة بعض الشخصيات بما  فرض على الرئيس تقديم استقالته. الأمور يصعب أن تتوقف عند استقالة الرئيس، ذلك أن مطالب الحراك واضحة وتقضي بإنهاء النظام السابق بكل رموزه وحيثياته، بما يعني البحث عن مخارج دستورية ملائمة، كما نصّ على ذلك بيان هيئة الأركان والتزامها بالمواد 7و 8 و102، وكيف يمكن مثلاً استبدال رئيس مجلس الأمة غير المقبول بآخر، ومصير الحكومة التي تشكلت، ورئيس المجلس الدستوري المرفوض، وكذا أهمية تشكيل لجنة بصلاحيات واضحة للإشراف على الانتخابات، وهل يمكن التوصل إلى تفاهمات بين المؤسسة العسكرية وممثلين عن الحراك الشعبي، والمعارضة لإيجاد حلول انتقالية توفّق بين الجانب الدستوري وأهداف الحراك الشعبي. ذلك هو التحدي الكبير المطروح على الجزائر اليوم مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى