fbpx

لماذا يحرقون القمح؟ الأمن الغذائي في سورية الواقع والمستقبل

الأمن الغذائي: هو توفر إمكانية حصول البشر على نحو آمن وبلا أية عوائق أو موانع، مهما كان نوعها أو أسبابها، على الغذاء على نحو كاف وصحي، يؤمّن ما يحتاجونه من عناصر مغذية لكي يستمروا بممارسة حياتهم على نحو صحي، وقد أشرت في دراسة قدمتها عام 2014، إلى أن هناك أربعة أبعاد أرساها المؤتمر العالمي للأغذية عام 1996 وهي: التوفر والحصول والاستقرار والانتفاع، ولعل هذه القواعد كافة غدت في حالة مرضِيّة وتدهور ممتد، فتحليل المعلومات المرتبطة بهذه العوامل والقياس عليها عملية أساسية لـ “تصميم السياسات والاستراتيجيات الهادفة لمعالجة انعدام الأمن الغذائي”، وعليه لا بد من النظر بكل عنوان من هذه العناوين ومن ثم جمعها للوصول إلى رؤية واضحة تستند إلى معطيات واقعية، ولأجل ذلك يمكن الانطلاق من سؤال واحد حولها جميعاً، هل الغذاء متوفر، وهل يمكن الحصول عليه على نحو مستقر وآمن وينتفع منه؟. تتناول هذه الدراسة هذا الأمر من خلال المحاور التالية: 1 – الأمن الغذائي وموقع سورية منه 2 المناطق السورية تبعاً للمناخ 3 الوحدة مع مصر وقوانين الإصلاح الزراعي 4 الزراعة والسياسة من الأسد الأب إلى الابن 5 بشار الأسد واتجاهات الخصخصة 6 أهمية القمح السوري 7 مفهوم الأمن الغذائي 8 أثر الأحداث على القطاع الزراعي 9 الثروة الحيوانية 10 دور المساعدات 11 إدارات فصائلية ومحلية تتحكم بالغذاء 12 – اقتراحات أوليِّة مرحلية للوصول إلى الأمن الغذائي من المرجح أن تصنف الكارثة التي تعرضت لها سورية في السنوات القليلة الماضية، في مقدمة الكوارث الأكثر إيلاماً في تاريخها، ولا شك أن الخسائر بالأرواح هي المأساة التي لن تعوض، لكن يمكن القول أيضاً: إن لتدمير الأرضية التي تساهم باستقرار الشعوب وتنميتها مكانته الهامة إذ لا يدفع ثمنه المباشر من يعيشون اللحظة فقط، إنما يمتد أثره ويتفاعل، وقد يصل إلى أجيال قادمة، وهذا ما نتج عن الحالة السورية التي تعددت فيها أوجه النكبة، ومنها الأمن الغذائي الذي له الدور الأساسي في تثبيت المجتمعات واستقرارها، إذ يحرم الجوع والجوع المستتر الأفراد من الطاقة والمهارة اللازمتين للعمل المتقن، وتؤدي الاضطرابات المدنية والصراعات والكوارث الطبيعية والأزمات الاقتصادية إلى تعقيد الجهود المبذولة للتعامل بفعالية مع الفقر المدقع، وانعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية1. الأمن الغذائي وموقع سورية الجغرافي: في بلد كسورية يعتمد اقتصاده على نحو أساسي على الزراعة وما يرافقها، يصبح الحديث عن الأمن الغذائي أكثر شمولاً، ويتعدى كونه عامل أمان، فهو بحد ذاته مصدر رزق لملايين الأفراد العاملين في إنتاج الغذاء بأنواعه، ولا يقتصر الحديث هنا على الإنتاج النباتي فحسب، بل على الإنتاج الحيواني شق القطاع الزراعي الآخر، وقد بيّن العديد من الدراسات المتعلقة بتاريخ سورية القديم، أهميتها الجغرافية وحيوية الإنسان الذي قطنها في قدرته على التعامل مع الموارد المتاحة في الطبيعة، فالحضارات القديمة التي تعاقبت على هذه المنطقة اهتمت بتوطين الكثير من الزراعات، وبتطوير أدواتها وإنتاجيتها، إذ تتمتع سورية بتاريخ حيوي يعود إلى عصور ما قبل التاريخ المدوّن، وأغنى التنوع البيئي والمناخي تنوع منتجاته الزراعية الغذائية والعلفية، حيث تتنوع جودتها ومذاقها بحسب مناطق إنتاجها2، وساعد موقعها ومزايا مناخها الإمبراطورية الرومانية قديماً على اعتمادها خزاناً غذائياً، ويمكن القول: إنه لم يتعرض السوريون إلى التهديد بأمنهم الغذائي تاريخياً أو إلى مجاعات حادة إلا في أوقات محدودة جداً وغالباً محصورة بمناطق معينة سرعان ما يتم تجاوزها، فتنوع المناخ الذي أدى إلى تنوع المنتجات الغذائية، أتاح لها طيفاً واسعاً من مصادر الغذاء، فنجد على سبيل المثال القمح والشعير والبقوليات كمحاصيل شتوية والذرة الصفراء والفاصولياء وأنواع من الخضار كمحاصيل صيفية بكميات هائلة مع وجود محاصيل تزرع في أكثر من موسم زراعي، إضافة إلى دور التضاريس واختلافها ما يساهم في إطالة موسم النمو للمحصول الواحد، فعندما ينتهي موسم إنتاج معين في الساحل يبدأ موسم آخر في المناطق الداخلية تليها المناطق الجبلية،3 وهذا ينطبق على الأشجار المثمرة، وطريقة تنوعها وانتشارها من التفاح إلى الحمضيات والزيتون وغيرها، يضاف إلى ذلك مهارة الإنسان السوري في العمل، فالأراضي القابلة للزراعة تمتد على نحو ثلث مساحة سورية أي ما يقارب 6.5 مليون هكتار4، وعلى ذلك كان القياس بأن المنتجات الزراعية كانت في غالبيتها تحقق الاكتفاء الذاتي للسكان تبعاً لحالة المواسم. المناطق السورية تبعاً للمناخ: تقسم المناطق في سورية تبعاً للمناخ إلى خمس مناطق رئيسة5 هي: المنطقة الجنوبية التي تشمل العاصمة دمشق والمحافظات الجنوبية: درعا، السويداء، القنيطرة، ومساحتها نحو 15.7 من المساحة الكلية لسورية، والمنطقة الوسطى ومساحتها نحو 27.6 بالمئة وتضم محافظتي حمص وحماة، والمنطقة الشمالية مساحتها نحو 12.6 بالمئة، وتضم محافظتي حلب وإدلب، ثم المنطقة الساحلية وتغطي 2.3 بالمئة من مساحة سورية وتضم محافظتي اللاذقية وطرطوس.. أما المنطقة الشرقية فهي الأوسع إذ تصل مساحتها إلى نحو 41.8 من مساحة سورية وتضم محافظات دير الزور والحسكة والرقة، وتتراوح نسبة الهطول المطري في سورية ما بين 100 مم في بعض المناطق إلى 1000 مم في الشريط الساحلي، وعلى نحو عام قُدّر متوسط الهطول المطري السنوي بـ 252مم. تساهم كل منطقة بحسب نوعية إنتاجها الزراعي بحصة خاصة بها في الاقتصاد الزراعي، ويقدر عدد الناشطين اقتصادياً في القطاع الزراعي نحو 1,69 مليون نسمة وهذا القطاع هو قطاع واسع لعمل الأسرة عموماً، أي أن الإنتاجية مرتبطة على نحو كبير بعمل أفراد الأسرة فيما تملكه هي من أرض قابلة للزراعة أو حيوانات، مهما صغر حجم ذلك كونه يدرُّ عليها قليلاً من المال تتدبر أمورها به مع ما تؤمنه من غذاء مباشر من إنتاجها وهو لا يدخل عملية الربح والخسارة كمعادل مادي لمشروع ذي هيكلية تنظيمية. الوحدة مع مصر وقوانين الإصلاح الزراعي: وتشكل الملكيات الصغيرة والمتوسطة الحجم الحالة الأكثر شيوعاً في الإنتاج، وهذه الملكيات على نحو عام كانت وما زالت في تناقص مستمر بسبب تعدد عدد الحائزين الزراعيين وزيادتهم نتيجة الإرث وقوانين الإصلاح الزراعي، وبذلك أصبحت الملكية الزراعية أقل مركزية بعد قوانين الإصلاح الزراعي6، وأن التطبيق العملي لهذه القوانين التي نصت على ألّا تزيد الأرض الممنوحة للعائلة الفلاحية المنتفعة على 8 هكتار سقي و20 إلى 30 هكتار بعل كان مختلفاً، فقد حصلت العائلة الواحدة على أقل من ذلك بكثير، حيث إنَّ وسطي الملكية من الأراضي البعلية كان 8.3 هكتار فقط7، وإن سيادة الإنتاج الصغير يؤدي إلى مشاكل متعددة نتيجة تبعثر الملكيات وما يتبعه من تبعثر أدوات الإنتاج وقوة العمل الاجتماعي إضافة إلى المشاكل التقنية، وقد بدأت مشاكل قوانين الإصلاح الزراعي خلال فترة حكم الوحدة بين البلدين نهاية خمسينيات القرن الماضي، إذ صدر القانون رقم 134 لسنة 1958 تحت عنوان تنظيم العمل الزراعي،8 ونص بعد ذلك قانون الإصلاح الزراعي على أن سقف الملكية في الأراضي المروية هو 80 هكتاراً، و300 هكتار في الأراضي البعلية، ليتم توزيع الأراضي من أصحاب الملكيات الكبيرة على الفلاحين الذين لا يملكون أرضاً من خلال عمليات التأميم التي أدت إلى مغادرة أصحاب المشاريع الكبيرة البلاد. الزراعة والسياسة من الأسد الأب إلى الابن: إن الأحداث الجسيمة التي وقعت في السنوات القليلة الماضية من حكم بشار الأسد، فتحت الباب واسعاً لظهور العديد من المشاكل العسيرة ومنها مسألة الغذاء وتوفره أمام السكان، وعلى نحو عام لا يمكن فصل أي نتائج حالية أو مستقبلية في سورية عن النظام الذي أسسه حافظ الأسد الذي استلم الحكم بانقلاب عسكري عام 1970، فقد قسمت مدة حكمه إلى ثلاث مراحل اقتصادية9 الأولى منذ عام 1970 إلى 1980، بلغت فيها نسبة النمو السنوي نحو 10.5 بالمئة، ركزت خلالها العملية الاقتصادية كلياً على تدعيم مركزية القطاع العام، والاستفادة من المعونات الخارجية والقروض. أما المرحلة الثانية فقد اعتمد النظام فيها برنامج إصلاح اقتصادي، وأخذ يحرر الاقتصاد لتنشيط القطاع الخاص وتجاوز الأزمة التي تفاقمت في الثمانينيات، لكنه كان برنامجاً حذراً وبقي القطاع العام هو الأساس، وظهرت صيغة التعددية الاقتصادية للالتفاف على الإصلاحات وتبقى الأمور قيد السيطرة المركزية، وتشير بعض التحليلات إلى أن حافظ الأسد بسبب أحداث الإخوان المسلمين في الثمانينيات، حاول إرضاء شريحة من تجار دمشق وحلب من خلال فتح مجال استثماري لهم وخاصة في الاستيراد والتصدير، وبالمقابل وسع حجم التوظيف في القطاع العام لمختلف المؤسسات وأنشأ شركات بناء استوعبت الكثير من اليد العاملة وسحب جزءاً من اليد العاملة في الزراعة إلى قطاعات أخرى بحجة دعم الطبقات الفقيرة بوسائل عمل وراتب محدود، وهي ما أطلق عليها “البطالة المقنعة”، ليتمكن من إحكام القبضة الأمنية والاقتصادية على طبقات المجتمع ولا تأخذ فرصتها الاستقلالية. ما أدى إلى الدخول في المرحلة الثالثة وهي مرحلة الركود الاقتصادي التي رافقت فترة نهاية التسعينات. كانت الدولة تدير عملية التنمية عبر خطط خمسية استمرت حتى نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وخضع القطاع الزراعي إلى قرارات موجهة تأتي من مجلس الزراعة الأعلى10 برئاسة رئيس مجلس الوزراء وعضوية نواب الرئيس ووزراء الزراعة والري والتخطيط والاقتصاد والصناعة والتموين والاتحاد العام للفلاحين إذ يقرر المجلس تنفيذ الخطط ويشرف عليها ويحدد المسؤوليات وطرق التمويل والتسويق وما يرافقها. فهم النظام مبكراً دور المنظمات المدنية في العمل العام وقدرتها على التأثير، وفي سورية التي أدرك مزارعوها مبكراً أهمية الدفع باتجاه نهضة زراعية، نظموا عملهم من خلال تأسيس أول غرفة زراعية سورية عام 1892 تحت اسم غرفة زراعة دمشق،11 وهي أعرق غرفة زراعة في المنطقة، ثم تأسست غرفة زراعة حلب في 1936 ليتوالى بعدها تأسيس الغرف الزراعية في بقية المحافظات، ولهذا دخل نظام الأسد بقوة على خط تلك التنظيمات وأسس الاتحاد العام للفلاحين عام 1974، وضمَّ الجمعيات الفلاحية كافة من أصغر قرية إلى أكبر تجمع، وعُين رئيس الاتحاد عضواً دائماً في القيادة المركزية لـ “لجبهة الوطنية التقدمية”، وفي النتيجة ربط العملية الزراعية بما يلزم لكل مراحلها بالجمعيات التعاونية فأصبح القطاع الزراعي في قبضته، بما في ذلك القروض الزراعية والتحكم بحجمها وتقييد الاستفادة منها لتصبح عبئاً على الفلاح فيسهل اصطياده بما رهن مقابل القرض ليبقى عنصراً ضعيفاً تحاصره الدولة بدلاً من حمايته، واضطر الفلاحون للدخول بالجمعيات التعاونية لتأمين مصالحهم وأدواتهم ليصبحوا جزءاً من سياسات النظام. بعد مرور بضعة أشهر على وفاة حافظ الأسد وتوريث ابنه بشار الحكم عام 2000، دخلت سورية في حالة انتعاش اقتصادي مفاجئة غير واضحة الأسباب، إذ تحسن مستوى الدخل وزادت فرص العمل وشعر الناس أن زمن حافظ الأسد12 انتهى وأن هناك صفحة جديدة فتحها النظام، وقد استمرت حتى عام 2004، إذ بدأ النظام بتحرير الأسعار وبدأ القطاع الخاص يتحرر عبر ماكينة رجال النظام المقربين جداً، وسمح للبنوك الخاصة بفتح أبوابها أمام العملاء وكذلك الجامعات الخاصة وأتاح استيراد كل ما كان ممنوعاً أو مقيداً، وظهر أنَّ كل تلك الحركة الاقتصادية كانت بإدارة رامي مخلوف ابن خال بشار، بما فيها شركات الهواتف الخليوية، وتحويل الأموال والصيرفة ما أدى إلى نتائج عكسية على أهم قطاع في البلد وهو القطاع الزراعي، فأخذ بالانهيار بشقيه النباتي والحيواني، وتراجعت الصناعة وتدهور قطاع الخدمات والتعليم وارتفعت الأسعار على نحو كبير، طبق نموذجه الخاص ليبتعد عن نهج أبيه، ولكن سياساته أدت إلى تصحُّر الأراضي، ونشطت موجة النزوح الداخلي من العاملين في القطاع الزراعي من مناطق الشمال الشرقي إلى ضواحي العاصمة دمشق، ومدينة حلب وفاق العدد مليون نسمة، وبذلك تركوا عملهم في الفلاحة والرعي.13 بشار الأسد واتجاهات الخصخصة: يرجّح عدد من الباحثين أن التغيرات الجذرية في السياسة الاقتصادية، وإطلاق يد رامي مخلوف في القطاعات كافة، مع حركة النزوح الداخلية تلك الأسباب الاقتصادية كانت إحدى أهم الأسباب الدافعة للحراك الشعبي عام 2011، وأن القطاع الزراعي الذي كان يسد رمق الناس أصبح عبئاً على العاملين فيه، وساهمت التحولات الكبيرة في السوق، وفي مظاهر الحياة العامة بتكوين صورة قاتمة للعاملين في القطاع الزراعي، هذا القطاع على الرغم من كل القرارات الخاطئة أو الارتجالية التي اتخذتها الحكومات المتعاقبة التي اختارها نظام الأسد الأب والابن، ومهما كان الشكل العام إلا أن أهم ما يمكن ملاحظته في عهد بشار هو إعلانه المباشر والصريح بأن المؤسسات الاقتصادية الإنتاجية التي تملكها الدولة، أصبحت تشكل عبئاً على الموازنة العامة التي تقوم بتغطية خسائرها المستمرة، وهذا يتطلب التخلص من هذا العبء إما بحلها أو ببيعها لمستثمرين،14 وضيَّقت هذه القرارات على شريحة كبيرة من الناس، وأفقدتهم القدرة على امتلاك دخلٍ يمنحهم الإحساس بالأمان النسبي لهم ولأسرهم، وبدأت معها قضايا الأمن الغذائي في سورية تهتز وخاصة مع ترافق ذلك بسنوات جفاف بسبب ندرة الأمطار. كان نظام الأسد خلال العقود الماضية قد سن عدداً من القوانين والإجراءات لربط الفلاح به، وذلك لأجل تأمين أدوات الإنتاج ومستلزماته، لكن ذلك ترك الفلاح في حالة قلق مستمرة لدفعه إلى إنشاء علاقات خاصة عشائرية وأمنية وسياسية لتأمين ذلك عن طريق التزلف على نحو فردي كي لا يخسر غلّته، كون الزراعة على نحو عام إنتاجاً موسمياً ضيقاً ومحدود المدى، فعلى سبيل المثال أنشئت المؤسسة العامة للبذار بالمرسوم 190 من عام 1970، لتأمين مستلزمات الفلاح من البذار المحسن والمغربل بأسعار تشجيعية،15 وبالمقابل يتم التسويق عن طريق المؤسسة العامة للحبوب حصراً، وهدف ذلك: “تعزيز المخزون الاستراتيجي من المحاصيل الزراعية كافة خاصة الحبوب، واستجرار أكبر كمية ممكنة من مادتي القمح والشعير، لأجل مقومات صمود الشعب السوري”، من المرجح أن نظام الأسد رأى بأن القمح من أهم عوامل تثبيت سلطته، بهدف تأمين الخبز واحتكار الدولة له، وشجع التوسع بزراعة القمح الطري على حساب القمح القاسي الذي تشتهر به سورية، ومع هذه الاستراتيجية أخذ صنف القمح القاسي يتدهور بسبب عمليات الخلط الوراثي وظهور أصناف غير نقية أفقدته ميزته فانخفضت أسعار تصديره.16 أهمية القمح السوري: يصنف القمح كأحد أهم المحاصيل الحبية على المستوى العالمي، فهو يحتل المرتبة الأولى يليه الذرة والرز، وفي سورية يحتل المرتبة الأولى لجهة الأهمية، ويدخل ومنتجاته المختلفة في أغلب الوجبات الغذائية اليومية كالخبز والبرغل والمعجنات.17 تبلغ متوسط المساحة المزروعة قمحاً في سورية 1.69 مليون هكتار، مساحة المروي 0.76 مليون هـكتار أي ما نسبته 45 بالمئة، ومساحة البعل 0.93 مليون هكتار بنسبة 55 بالمئة، ويبلغ الإنتاج الإجمالي من القمح 4.16 مليون طن، ينتج المروي منها 3 مليون طن بنسبة 73%، والبعل 1.1 مليون طن ويشكل ما نسبته 27%. والغلة العامة للقمح 2.4 طن/هكتار، غلة القمح المروي 3.97 طن/هكتار، والبعل 1.1 طن/هكتار.18 وتعدُّ سهول الرقة والحسكة ودير الزور شمال شرق سورية، أساسية في إنتاج القمح حيث تنتج 70 بالمئة من الغلة، وسورية على نحو عام تنتج القمح بنوعيه الطري والقاسي، ويمتاز القمح القاسي بكبر حجم الحبوب والبلورية واللون العنبري الأصفر، وبتأقلم واسع في المناطق البيئية لحوض المتوسط،19 ويمتاز القمح الطري بملاءمته لصناعة أنواع المعجنات كافة، وقد احتلت سورية المركز الثالث عالمياً بتصدير القمح القاسي بعد كندا والولايات المتحدة.20 لكن بعد أن أصبحت مساحات واسعة من مناطق إنتاج القمح خارج سيطرة النظام، أوقف دعم مادة الخبز في مناطق سيطرته، وبدأت روسيا والقرم في أوكرانيا تدعمان النظام بالقمح كمحاولة للمحافظة على استقرار الأسعار.21 ويوضّح الجدول حجم الإنتاج خلال عشر سنوات. 2007 2008 2009 2010 2011 2012 2013 2014 2015 2016 4 2.1 3.7 3.1 3.8 2.8 2.4 1.7 2.4 1.3 إنتاج سورية من القمح “مليون طن” وفق (فاو) خلال عشر سنوات22 ماذا يعني الأمن الغذائي: عرّفت منظمة الأغذية والزراعة العالمية (فاو) الأمن الغذائي بأنه توفر إمكانية حصول البشر على نحو آمن دون أية عوائق أو موانع مهما كان نوعها أو أسبابها، على الغذاء على نحو كاف وصحي، يؤمّن ما يحتاجونه من عناصر مغذية لكي يستمروا بممارسة حياتهم على نحو صحي، وقد أشارت في دراسة قدمتها عام 2014، إلى أن هناك أربعة أبعاد23 أرساها المؤتمر العالمي للأغذية في عام 1996 وهي: التوفر والحصول والاستقرار والانتفاع، ولعل هذه القواعد كافة أصبحت بحالة مرضيّة وتدهور ممتد. فتحليل المعلومات المرتبطة بهذه العوامل والقياس عليها هو عملية أساسية لـ “تصميم السياسات والاستراتيجيات الهادفة لمعالجة انعدام الأمن الغذائي”، وعليه لا بد من النظر إلى كل عنوان من هذه العناوين ومن ثّمَّ جمعها وصولاً إلى رؤية واضحة تستند إلى معطيات واقعية، ولأجل ذلك يمكن الانطلاق من سؤال واحد حولها جميعاً، هل الغذاء متوفر، وهل يمكن الحصول عليه على نحو مستقر وآمن وينتفع به؟! أثر الأحداث على القطاع الزراعي: إنّ تدهور القطاع الزراعي بدءاً من عام 2011، بسبب ما تراكم من أحداث وبخاصة الأسلحة الفتاكة التي استخدمها نظام الأسد على نحو كبير ما أدى إلى إغراق البلاد في فوضى عارمة ساهمت العديد من الفصائل العسكرية التي ظهرت على الساحة سواء كانت معارضة للنظام أم مساندة له، إضافة إلى التدخّل دولي متعدد الأطراف والغايات، أتاح للمدافع ونيران الحرب أن تشكل خرائط داخلية في سورية وكانتونات تتبدل على نحو واضح بين المتقاتلين. حيث أن اقتحام الجيش للمدن والأرياف والقصف الجوي ببراميل متفجرة وعشوائية قُدر أثرها التراكمي في مناطق حلب ودير الزور عن عدة قنابل دمار شامل قياساً لحجم الكارثة التي خلفتها، كما أن آلة الحرب أفسدت الكثير من المحاصيل والبساتين والثروة الحيوانية، و تعمد النظام حرق المحاصيل24 والأشجار المثمرة في عدة مناطق منها أرياف حماة وإدلب ودرعا وغيرها، إذ اعتمد التجويع كأسلوب حرب ضد الشعب عن طريق العقاب الجماعي دون الاكتراث بما يعنيه محصول ما كثروة وطنية، بل كسلاح يمكن استخدامه ضد المواطنين،25 فكان سلاح التجويع أكثر فتكاً بالسكان في العديد من المناطق، وقد تحولت كميات كبيرة من المساعدات الإنسانية إلى السوق السوداء أو مناطق اختارها النظام،26 وكانت وسائل الإعلام تنقل صور المدنيين يموتون جوعاً في عدة مناطق، مخالفاً للمبدأ الذي نصت عليه اتفاقية روما لعام 1996 حول الأمن الغذائي بقولها إنه لا يجوز استخدام الغذاء أداة للضغط السياسي والاقتصادي. كل ذلك أثّر على الموضوع الأمني للسكان فأبعدهم عن خدمة الأرض، وأدى إلى انقطاع طرق التواصل وعرقلة النقل، فتشابك الأسباب ووطؤها القاسي أثّر على التجارة البينية وتنقل الأفراد ونقل الغلة أو أدوات الإنتاج، ترافق مع تدهور الموارد المائية بأنواعها كافة وكذلك قطاع الطاقة، وهروب عدد هائل من الناس إلى أماكن مختلفة بعملية نزوح كبيرة جداً شملت أسراً بأكملها من المدن والأرياف، وهجرة ولجوء واسعين نحو الخارج بعيداً عن نيران الصراع أو لعدم الرغبة بالانخراط به، كما أن عدداً من المقاتلين جاؤوا من القطاع الزراعي، لينخرطوا في القتال لأسباب مادية أو أمنية أو عقائدية، وأصبح المجتمع في كثير من المناطق والمدن يغلب عليه العنصر النسائي، فتعددت أسباب تدهور قطاع العمل الزراعي وتعقدت مشكلاته. قدّرت فاو حجم الضرر والخسائر التي مُني بها القطاع الزراعي بنحو 16 مليار دولار أميركي27 حتى العام الماضي، لكن ربما يعدُّ هذا الرقم صغيراً قياساً إلى ما جرى من تدهور للبنى التحتية ولارتفاع سعر المحروقات وانخفاض قيمة الليرة السورية وعدم وجود إحصائيات دقيقة لحجم الخسائر المباشرة وغير المباشرة، وخسارة الخبرات واليد العاملة إما كضحايا مباشرين، أو بالهجرة،28 كما أن نقص مستلزمات الإنتاج المختلفة وارتفاع أسعارها، أدى إلى عزوف الكثير من الفلاحين عن الزراعة، وتعدى أثر انقطاع التيار الكهربائي أو الوقود اللازم لعمل مضخات الري في عملية الزراعة المباشرة إلى التسبب بعطش وجفاف الأشجار المختلفة في كثير من البساتين، كما أن نظرة أخرى لصعوبة التنقل بسبب تردي الحالة الأمنية، جعل الكثير من الفلاحين يبيعون محصولهم ضمن مناطقهم ما أدى إلى انخفاض كبير في الأسعار، بالإضافة إلى أن عملية تفريغ المنتجات في نقاط التفتيش وإعادة تحميلها سبب عرقلة أدت إلى النتيجة نفسها بسبب تكلفة السفر، وأثّر انخفاض قيمة الليرة مقابل العملات الأخرى إلى ارتفاع أسعار قطع التبديل، فبقيت آلات الزراعة دون صيانة.29 في عام 1999 وصل عدد سكان سورية نحو 16.11 مليون نسمة30، وقدرت الأمم المتحدة في عام 2016 أن عدد السكان قبل الحرب مباشرة كان نحو 24.5 مليون نسمة، أما من ظلَّ داخل سورية، حتى ذلك التاريخ، فقدر بنحو 17.9 مليون نسمة.31 وصنِّف نحو 6 ملايين نازحين، فيما قدرت نسبة الشباب تحت سن 19 قبل الحرب بـ 50 بالمئة.32 وكانت نسبة البطالة في2011 نحو 14% بالمئة، أصبحت عام 2016 أكثر من 50% وعلى الرغم من هذه الأرقام المطروحة إلا أنه يمكن القول إنها كلها تقديرية لعدم وجود إمكانية تقديم بيانات أو إحصائيات دقيقة، وعلمية بسبب الأحداث، فقد قُدّر عدد الأسر التي تعيش في فقر مدقع بنحو 70 بالمئة من السكان، وهم غير قادرين على الحصول على الغذاء الأساسي33، ويمكن التوصيف بأن المناطق السورية كافة تواجه على نحو أو بآخر إشكالية انعدام الأمن الغذائي. الثروة الحيوانية: تمتلك سورية ثروة حيوانية هامة ويميز هذه الثروة وجود سلالات وعروق أصيلة من الأغنام والخيول والأبقار والنحل وهي متكيفة مع المناخ السائد،34 أحصي عدد الأغنام عام 2010 فكان نحوَ 15.5 مليون رأس، والماعز نحو مليوني رأس36، وتشكل البادية السورية التي تحتل حوالي 55 بالمئة من مساحة البلاد مصدراً هاماً لهذه الثروة، وهي تغني السوريين بلحوم أغنام العواس التي يبلغ حجم قطيعها حوالي 80 بالمئة من إجمالي عدد الأغنام من هذا الصنف بالعالم، إضافة إلى منتجاتها من الحليب والألبان والأجبان،37 من جانب آخر فإن الأبقار التي تربى في المباقر، تماثل بأهميتها الأبقار التي تربى على نحو فردي في البيوت وحجمها لا يستهان به وهي تؤمّن للكثير من الأسر الغذاء على مدار العام تقريباً، مع ما يقدمه قطاع الدواجن من اللحوم والبيض كمواد غذائية بمتناول السكان، ومنه ما كان يُصدّر للخارج. تأثرت الثروة الحيوانية بالأحداث على نحو كبير، انعكست نتائجها على أسعار اللحوم بأنواعها وكذلك الحليب والألبان والأجبان، فالإنتاج الحيواني الذي لعب دوراً رئيساً في الاقتصاد السوري سابقاً وساهم بنسبة 40% من إجمالي الإنتاج الزراعي، ووفر 20% من الوظائف في المناطق الريفية،38 انتكس خلال الأزمة على نحو كبير، وعلى الرغم من ذلك فإنه بقي يساهم بالأمن الغذائي لسكان الأرياف، ولكن تأثره كان واضحاً وخاصة أن الكثير من المعارك كانت تجري في مناطق ريفية تعتمد اقتصادياتها على الرعي وما يرافقه، فعلى سبيل المثال بالنسبة لتربية الدواجن، قدِّر عدد طيور الدجاج في سورية عام 2014 بنحو 17 مليون طير منها 11 مليون دجاجة بيّاضة، ولكن يمكن الإشارة دائماً إلى أنه لا يمكن الوثوق بالإحصائيات المقدمة، فإن أي أرقام أو بيانات موجودة هي بيانات مكتبية تأشيرية نظراً لصعوبة الوقوف على الواقع الفعلي لأعداد الثروة الحيوانية39 في ظل الأحداث، وهذا التوصيف ينطبق على كل البيانات منذ عام 2011 حتى الآن، لكن ارتفاع تكلفة الأعلاف والنقل والطاقة مع انعدام الأمن للعاملين في هذا القطاع الذي يتطلب جهداً استثنائياً وخاصة في الأشهر الباردة، يؤكد وجود حالة تدهور كبير فيه، ففي عام 2018 قُدِّرت حصيلة انخفاض أعداد قطعان الماشية بنحو 30 بالمئة وانخفاض الإنتاج الحيواني بنسبة 40 بالمئة، وتقلَّصت الدواجن بنسبة 60%.40 وعلى ذلك فقد نُقل أو هُرَّب العديد من مربي الأغنام وماعزهم إلى دول الجوار، كما أن زيت الزيتون المنتج، وبعض المحاصيل الأخرى في مناطق الشمال السوري تدخل تركيا دونما ضوابط، ومن جانب آخر حذرت الفاو بأكثر من مناسبة، ومنذ سنوات من مشاكل خطيرة تتعلق بندرة لقاحات التطعيم الحيواني، وحاولت تقديم لقاحات تحصين في أكثر من موقع من خلال بعثاتها، ولكن هناك دائماً صعوبات تتعلق بالتخزين السليم للقاحات مع إشكاليات التبريد لغياب الكهرباء المستمر عن عدة مناطق، وقد ساهمت الفاو بحملة تلقيح ممولة من الولايات المتحدة الأميركية لحماية أكثر من 1.3 مليون رأس من الأغنام والماعز و56 ألف رأس من الأبقار من الأمراض الطفيلية، وجرت الحملة في عشر محافظات هي ريف دمشق والقنيطرة ودرعا وطرطوس واللاذقية وحمص وحلب والسويداء والحسكة، وهناك خشية من انتقال العدوى في حال وجود أمراض إلى دول الجوار، ووفق إحصائيات الفاو، فإنها قدمت اللقاحات منذ عام 2011 إلى منتصف 2017 لنحو عشرة ملايين رأس من الماشية، ومن جانب آخر تؤكد المنظمة أن النساء يشكلن نسبة أكثر من 60% من اليد العاملة في الزراعة، ويُحْسَبن العمود الفقري لسلسلة الغذاء في سورية.41 دور المساعدات: خلال السنوات السابقة قدمت عدة منظمات وجِهات دولية مساعدات غذائية للسكان وللنازحين في الداخل وللاجئين في دول الجوار، لبنان والأردن وتركيا والعراق، ففي عام 2018 قدِّر نحو 6.5 مليون سوري يعانون انعدام الأمن الغذائي، وأنهم بحاجة ماسة للمعونات، فيما يواجه نحو 4 ملايين آخرين خطر الدخول في انعدام الأمن الغذائي في حال عدم توفر دعم، فقد انخفض إنتاج الغذاء في سورية إلى أدنى مستوياته،42 وقد قدمت الأمم المتحدة في عام 2017 وحده عبر برنامج منظمة الفاو مساعدة للفلاحين لزراعة محصول القمح يكفي لقرابة 1.7 مليون شخص لمدة عام، وفي تقريرها حول أزمات الغذاء في العالم عام 2019. وأكدت الأمم المتحدة أن سورية43 معرضة لخطر المجاعة في العالم، إذ تراجع إنتاج محصول القمح، على سبيل المثال، إلى درجة خطيرة جداً ما جعله يهدِّد لقمة عيش المواطن اليومية، ويعود هذا إلى جملة كبيرة ومعقدة من العوامل المذكورة أعلاه ما أدى إلى تراجع المساحة المزروعة وخروج القسم الأهم والأكبر من الأراضي المخصصة لزراعته سواء الأراضي البعلية أو المروية في الشمال السوري على ضفاف نهر الفرات التي في غالبيتها لاتزال تعدُّ مناطق حرب، أو تسيطر عليها مجموعات مختلفة تدير ما تنتجه وتستثمره لمصلحتها ولمشاريعها الخاصة. إدارات فصائلية ومناطقية تتحكم بالغذاء: كثير من المحاصيل الغذائية التي تنتج في بعض المناطق كالأشجار المثمرة أو المحاصيل الصناعية كالقطن والشمندر السكري ويشرف على تسويقها والتحكم بها إدارات مناطقية معلنة أو غير معلنة مع تبدل الولاءات أحياناً من موسم إلى آخر بسبب تبدل السيطرة، وبعض تلك المحاصيل في حال وصولها إلى مناطق سيطرة النظام فإنه يشتريها بأسعار عالية وبصفقات تثقل جميعها كاهل المواطن سواء كان موجوداً تحت سيطرة النظام أم خارج سيطرته، مع ملاحظة عامل الخوف للمزارعين أو العاملين الزراعيين على نحو دائم من الخروج إلى الأراضي الزراعية لمتابعة الإنتاج، بسبب التعرض للقتل أو الخطف للحصول على فدية أو لأسباب لها علاقة بالانتماء الديني أو القومي أو غيره وخاصة مع ظهور التنظيمات المتطرفة، علماً أنه في بعض المناطق التي لا وجود للدولة أو لأي قانون فيها شكَّلت مجموعات اتفقت فيما بينها على حماية بعضها بعضاً خلال المواسم، لكن تبقى إشكالية التحكم بالتسويق ومنافذ العبور بين الحواجز والجماعات المختلفة، من جانب آخر ربما تأثرت نوعية الخبز المنتج وساءت جودته بسبب نوعية القمح المستوردة من روسيا،44 وخاصة أن الرغيف السوري شكله مسطح ورقيق قياساً لنوع الخبز المستخدم في روسيا أو غيرها، ويعدُّ الخبز مادة غذائية أساسية في سورية. يشار إلى أن الموسم الماضي 2018 كان حجم شراء القمح المتوقع من الإنتاج المحلي نصف مليون طن فقط، وقد وصل الناتج المحلي إلى 1.2 مليون طن مسجلاً أدنى مستوياته منذ عام 1989 بعد أن بلغ قرابة 4 مليون طن، فيما التوجه نحو استيراد 1.5 مليون طن من روسيا، مع العمل على استيراد القمح الروماني والبلغاري.45 في الشمال السوري الخارج عن سيطرة النظام هناك قلق من تدهور إنتاج القمح لأسباب مشابهة أيضاً، كارتفاع أسعار البذار والمبيدات التي لا تعطي فعالية حقيقية والأسمدة، ومشاكل التسويق، كما أن المزارعين انتقلوا إلى زراعات أكثر ربحاً كالبطاطا والبقوليات،46 ولعل الموقع الجغرافي الخاص لسورية بين ثلاث قارات وكونها أيضاً ممراً برياً أساسياً لربط التجارة بين أوروبا والقسم الآسيوي من البلاد العربية عبر الأردن، كذلك ربط تركيا ولبنان ثم العراق، هذا الموقع كان له أثره التاريخي في حفظ الأمن الغذائي في المنطقة، وكان له أثره خلال الأعوام القليلة الماضية في تفريغ الكثير من المواد الغذائية من سورية لسهولة تهريبها في اتجاهات مختلفة بغية الحصول على أرباح خاصة لعدم وجود ضوابط وقوانين محددة، وإن الأزمة المعيشية التي راكمتها الحرب أثّرت على دول الجوار على نحو مباشر. لا شك في أنَّ سورية شكلت في العقود الماضية قبل الأحداث مصدراً هاماً للكثير من الخضار والبقوليات والفاكهة والزيوت التي تعتمد عليها دول الجوار، نظراً لرخصها قياساً إلى الأسعار المتداولة في الأردن ولبنان والعراق، مثل اللحوم والبيض، لكن استمرار دوامة العنف وغياب الأمن طوال السنوات التسع الماضية وعدم وجود أفق لأي حل ينقل البلاد إلى ضفة جديدة من الأمن والاستقرار وحكم القانون، سيبقيها بحاجة إلى كميات كبيرة من المساعدات الدولية، يمنعها من المساهمة من جديد في تدعيم الأمن الغذائي وتسهيل التبادل التجاري النشط بين دول الجوار عبرها، وتقول المفوضية الأوربية47 التي قدمت منذ عام 2011 حوالي 17 مليار يورو داخل سورية وفي الجوار، إن حجم المعاناة لا يزال هائلاً مع وجود أكثر من 11.7 مليون شخص من بينهم نحو 6 ملايين طفل بحاجة إلى مساعدات إنسانية، ومع عدم وجود حل سياسي في الأفق حيث هناك دلالات للاستمرار طوال عام 2019 ولفتت المفوضية إلى منع قوافل المساعدات من الوصول إلى المحتاجين في العديد من المناطق بسبب الانتهاكات المستمرة للقانون الدولي الإنساني، وأن حماية المدنيين وعمال الإغاثة غير مضمونة، مع وجود حالات اغتصاب وعنف جنسي واختفاء قسري وتجنيد للأطفال والإعدامات واستهداف المدنيين على نحو متعمد، هذا كله يفاقم من الأزمة الإنسانية ويعرقل وصول المساعدات، وقد أقر مؤتمر بروكسل مساعدات إنسانية من الاتحاد الأوروبي حوالي 2.4 مليار يورو حتى عام 2020، مع ملاحظة أن ما يقارب من نصف المساعدات العاجلة تذهب إلى الداخل لإنقاذ الأرواح والطوارئ والباقي لتوفير مياه الشرب والصرف الصحي وبعض الدعم الإنساني، وتعهدت الدول المشاركة في مؤتمر بروكسل في آذار/مارس الماضي حول دعم مسستقبل سورية، بتقديم أكثر من 8.3 مليار يورو لتلبية احتياجات السوريين والبلدان المجاورة، وجاء ثلثا التعهدات من الاتحاد الأوروبي،48 ووُصِف الرقم المقترح بالقياسي لعام 2019 ويبلغ نحو 6.2 مليار يورو، والباقي للعام 2020. اقتراحات أولية مرحلية للوصول إلى الأمن الغذائي: إن بقاء سورية بهذا الوضع سيقابله سنوات طويلة من العمل والجهد المتواصلين لتصحيح كل ما تراكم من مشاكل وعقبات تتعلق بالأمن الغذائي وبدورة الإنتاج الزراعي والنهوض به من حالة التدهور بشقيه النباتي والحيواني، فطول أمد الصراع يعني صعوبة التعافي،49 ومن المتوقع أن يصل حجم الخسائر في إجمالي الناتج المحلي عام 2020 إلى ضعف مستواه في 2010، فالناتج المحلي قد يحتاج إلى 4 سنوات ليستعيد 28 بالمئة من عافيته إذا أصبح عمر الصراع 10 سنوات، إذ ستزداد إشكالية بناء المؤسسات بسبب الانقسامات المجتمعية، فالنهوض بالبلد يحتاج لبناء مؤسسات اقتصادية قوية ومتماسكة بما فيها القطاع الزراعي وإنشاء مراكز للبحوث المتعلقة بالتحسين الوراثي للأصناف المختلفة، فقد بينت الدراسات50 أن نسبة مساهمة التحسين الوراثي في كميات الإنتاج تبلغ من 20 إلى 30%، ولهذا يتطلب مستقبل البلاد الاعتناء بالبحوث العلمية لدورها الحاسم في تحسين نوعية الإنتاج وكميته لتدعيم الدخل القومي ما سينعكس في النتيجة على التنمية، وكون الزراعة هي المصدر الأساسي للدخل، وفرص العمل في المناطق الريفية، وخاصة في حال نكبتها الكبيرة، قليلة جداً، إضافة إلى أنها مزود مهم للغذاء، إذاً لابدَّ من الوصول إلى خطة متكاملة توفر الأغذية من الناتج المحلي،51 ومن خلال التعاون مع المنظمات الدولية والإقليمية يمكن اعتماد برامج تتناغم مع برامج منظمة الأغذية العالمية لسبل العيش من منظور الاستدامة، يشمل الإدارة المتكاملة للأراضي والمياه وموارد المعيشة، والحفاظ على الموارد الطبيعية بالاستخدام العادل، الذي يكفل نواتج مستدامة لسبل العيش وهو ما تعمل عليه المنظمات الدولية بربط المساعدات الإنسانية بالتنمية الدائمة وعلى المدى الطويل، بعد تجاوز مسألة الطوارئ،52 مع إعادة النظر جذرياً بالخطط والقوانين المتبعة في سورية كافة، وهي التي كانت تبنى على خطط ارتجالية لغايات سياسية أو إدارية، إذ هي جداول وبيانات مكتبية أكثر منها عملية يحاول من خلالها المسؤولون تقديم أنفسهم على أنهم أصحاب إنجاز وذلك بتقديم أرقام وهمية، كما أن الشعارات التي كانت تطلق لأجل تعبئة الجماهير إيديولوجياً كشعار الأرض لمن يعمل بها، والخطط التعاونية التي بنيت على رابط أمني مرجعيته حزب البعث كلها كانت عبارة عن أدوات استنزاف للبنية المجتمعية المنتجة، علماً بأن الكثير من الخطط كانت تتغير وتُرمى قبل أن تكتمل وذلك بتغيير وزير أو مدير عام وكأنها فرصة لاستعراض الذات دون الاكتراث بتنمية وطنية لها أمدها ومعياريتها. كذلك وجوب الاهتمام بالرؤية التي تؤكد تعزيز قدرة الأفراد والأسر والمجتمعات على استيعاب آثار الأزمة السورية والتعافي منها والتكيف مع نتائجها للحد من المخاطر المستقبلية وتخفيف آثارها على الأمن الغذائي وعلى الموارد المتجددة، وقد بنيت على أربع ركائز هي، الاستعداد والاستجابة لدعم المتضررين لكي يعتمدوا على أنفسهم في المستقبل، وتطبيق تدابير للحد من وقع التأثير بالمراقبة والتحليل للمعلومات المتوفرة، وتعزيز المؤسسات لبناء القدرات ودعم جهود إدارة المخاطر ومنع انتشار الأوبئة النباتية والحيوانية محلياً أو العابر للحدود وتأمين الدخل وتحسينه وتأمين فرص عمل في المناطق الريفية بما يخدم التنوع والتكثيف الزراعي، ودعم الحيازات الصغيرة، وتصنيع المنتجات الزراعية، والاهتمام بالتسويق، وتعزيز التكنولوجيا، وتقديم برامج إرشاد وتحسين الأمن الغذائي للاجئين والعائدين، وتوفير الظرف الأمني المناسب لكل ذلك. المراجع: 1 الفاو: حالة انعدام الأمن الغذائي في العالم http://www.fao.org/3/a-i4030a.pdf 2 لقاء خاص لمرصد مينا مع الدكتور وسام عقل الباحث السابق ضمن برنامج تربية القمح في سورية، يعمل حالياً باحثاً ومربي قمح في الشركة الألمانية الدولية. 3 المهندس سامر كعكرلي: المدير الأسبق للاستثمار الزراعي في سورية، ومدير اتحاد الغرف الزراعية السورية (لقاء خاص لمرصد مينا) 4 عقل مرجع سابق 5 الفاو: تقرير الجمهورية العربية السورية http://cutt.us/nG85q 6 عقل: مرجع سابق 7 بحث الدكتور فادي خليل حول القطاع الزراعي في سورية 2007 8 – مصر العربية – أحمد علاء: الجمهورية المتحدة في محكمة التاريخ http://cutt.us/IDd6l 9 – السورية نت – سلام السعدي: الاقتصاد في سورية كلاعب أساس في انفجار التطرف http://cutt.us/EE2T1 10 البيان: تصورات أولية لاستراتيجية سورية الزراعية حتى 2010 http://cutt.us/1XPoD 11 كعكرلي: مرجع سابق 12 موقع اقتصاد.. فؤاد عبد العزيز: الاقتصادي بشار الأسد كيف وصلنا إلى هذا السوء http://cutt.us/dm8hz 13 العرب.. ابراهيم الجبين: بشار الأسد ووجوهه التي يحملها رغماً عنه http://cutt.us/2iVGi 14 كعكرلي: مرجع سابق 15 – المؤسسة العامة لإكثار البذار سورية http://cutt.us/sC8Vn 16 كعكرلي: مرجع سابق 17 المهندس مجيد عبود: معاون رئيس قسم بحوث الحبوب في الهيئة العامة للبحوث العلمية الزراعية سابقاً، ومربي سابق للقمح والشعير في الهيئة.. لقاء خاص لمرصد مينا 18 – المجموعة الإحصائية السورية http://cbssyr.sy/yearbook.htm 19 عبود: مرجع سابق 20 عقل: مرجع سابق 21 – بي بي سي الحياة والموت في سورية http://cutt.us/cVIxo 22 اليوم.. إسماعيل خضر: دعامة الاقتصاد السوري في خطر http://cutt.us/OVJ0a 23 – الفاو: حالة انعدام الأمن الغذائي في العالم.. مرجع سابق 24 – عنب بلدي، ريف حماة مسلسل حرق المحاصيل الزراعية مستمر http://cutt.us/zUgt3 25 كعكرلي: مصدر سابق 26 – بي بي سي: الحياة والموت في سورية.. مصدر سابق 27 الفاو: دراسة حول المزارعين السوريين تكشف عن ضرورة البدء في دفع الزراعة الآن على الرغم من الدمار http://cutt.us/y5mXZ 28 عقل: مصدر سابق 29 تقرير عن الوضع الزراعي في سورية، مؤسسة هاينريش بويل في بوندليندرن المانيا http://cutt.us/l9eP6 30 البيان: مرجع سابق 31 بي بي سي: مرجع سابق 32 البيان: مرجع سابق 33 – بي بي سي: مرجع سابق 34 – الاقتصاد اليوم: الاقتصاد الزراعي في سورية: المشكلات والحلول http://cutt.us/f8oGL 36 الفاو: بعثة التقييم المشتركة إلى الجمهورية العربية السورية بين منظمة الفاو وبرنامج الأغذية العالمي بشأن الأمن الغذائي http://cutt.us/wC9pT 37 كعكرلي: مرجع سابق 38 الفاو: حملة صحة الحيوان في سورية تدعم الأمن الغذائي وسبل العيش لأكثر من 230 ألف شخص http://cutt.us/JZuUl 39 – صحيفة الوطن سورية: الزراعة عاجزة.. ولا إحصاءات فعلية عن أعداد الثروة الحيوانية، نسبة تراجعها أثناء سنوات الحرب 35 إلى 40 بالمئة http://cutt.us/7QCND 41 الفاو: حملة صحة الحيوان في سورية.. مرجع سابق 42 عمل الفاو في سورية http://cutt.us/4krZd 43 – فرانس 24: أكثر من 113 مليون شخص في 53 دولة يعانون جوعاً حاداً http://cutt.us/Tsz7t 44 عقل: مرجع سابق 45 رويترز: لقاء مع عبد الله المغربي وزير التجارة الداخلية http://cutt.us/klf2V 46 – مرصد مينا: زراعات الشمال التكلفة أعلى من المردود والقمح في خطر http://cutt.us/fZRov 47 – المفوضية الأوربية: المساعدات الإنسانية والحماية المدنية http://cutt.us/b2FlK 48 – بعثة الاتحاد الأوروبي: مؤتمر بروكسل الثالث http://cutt.us/25g8h 49 – تقرير البنك الدولي http://cutt.us/uMo9M 50 عبود: مرجع سابق 51 – الفاو: حالة انعدام الأمن الغذائي في العالم مرجع سابق 52 الفاو: سبل معيشة قادرة على المجابهة.. الحد من مخاطر الكوارث في مجال الأمن الغذائي والتغذوي http://www.fao.org/3/a-i3270a.pdf هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى