عفرين (الأهالي يزرعون والفصائل تجني وتركيا تأكل)
- مدخل
تقع منطقة عفرين في أقصى شمال سوريا الغربي، وتتبع لمحافظة حلب ويقطن فيها سكان من إثنيات مختلفة وتغلب على تلك الإثنيات الكردية، حيث يشكل الأكراد العدد الأكبر من السكان. كانت المنطقة في مرحلة الانتفاضة السورية محلاً لطمع الجوار التركي المتحمس دوماً للسيطرة عليها وذلك لأسباب عدة، ولعل من تلك الأسباب أسباب سياسية عسكرية تتعلق بمحاولة مد النفوذ التركي داخل الأراضي السورية من جهة والقضاء على الوحدات الكردية التي كانت تنتشر في المنطقة, إذ تعدّ تركيا أنها على ارتباط مباشر بحزب العمال الكردستاني الذي يعد إرهابيا في تركيا، وبعد أن سيطرت القوات التركية على المنطقة في ربيع 2018 ظهرت دوافع جديدة للأطماع التركية من جوانب اقتصادية، وتجلت تلك الأطماع الاقتصادية بوضوح في استثمار موارد المنطقة وعلى وجه الخصوص الزراعة، إذ تشكل الزراعة المورد الأساس للسكان حيث تنتشر الأراضي الخصبة على جانبي نهر عفرين الذي يخترق المنطقة جاعلاً منها أكثر البقاع السورية خصوبة وتنوعاً في المزروعات. وقد اعتمدت السياسات التركية عن طريق مخابراتها على تجنيد بعض من في المنطقة من أجل استغلال الموارد على أتم وجه، حيث نشرت مراكز أمنية يديرها مقربون من الاستخبارات التركية وجعلت للمراكز الأمنية أذرعاً على الأرض بتعيين مخاتير في كل القرى والمزارع وفرضت على أي نشاط زراعي أو اقتصادي في المنطقة قيوداً عن طريق المخاتير والمراكز الأمنية.
- التهمة جاهزة دائماً
منذ بداية السيطرة التركية كانت التهمة جاهزة للسيطرة على أي شيء ذي قيمة في المنطقة أمام المراكز الأمنية المدارة من الأتراك وعناصر من المعارضة السورية وهي الارتباط بحزب (pyd)، حول قضية المصادرات بحثناً مطولاً عن شهادات من السكان، ولم يكن الأمر سهلاً بسبب الخوف والنظام الأمني المعقد الذي تستخدمه القوات التركية وتفرضه على سكان المنطقة هناك، فالكلمة هنا في عفرين قد تودي بك وبممتلكاتك ولربما بحياتك بتهمة الانتماء إلى الحزب أيضاً، أخيراً وصلنا إلى مسعود من سكان ناحية جنديرس في جنوب عفرين وبعد عناء اقتنع بضرورة نقل الصورة الصحيحة إلى العالم خارج نطاق السيطرة التركية المفروضة. يقول مسعود (حتى اسمي لا يمكنني أن أبوح به فأنا لا أريد أن أتعرض لمشكلات وضغوطات إضافية، لقد تعرضنا منذ بداية سيطرة المعارضة لضغوطات عدة وصودرت أملاكنا حتى من دون أن نتحدث فما بالكم إن حصل وتحدثنا). ويضيف مسعود (في المرحلة الأولى من السيطرة التركية كانت المصادرات توصف بأنها سرقات أكثر من كونها مصادرات، إذ كانت الأمور تحدث عشوائياً وقد خسر الأهالي في الأيام الأولى من سيطرة المعارضة والأتراك عدداً من ممتلكاتهم وأغلب ما خسره السكان كان يشمل أثاث المنازل والسيارات والمعدات والحيوانات). برهوم شاب مزارع من سكان الضواحي الشمالية النائية لعفرين وقد خسر جزءاً من ممتلكات عائلته بتهمة الحزب قال لنا (لم تستمر الأمور عشوائية أبداً، أيام عدة ثم أصبح كل شيء منسقاً وبإدارة المراكز الأمنية التي انتشرت في القرى والبلدات، إذ صودرت كل ممتلكات الذين هربوا من المنطقة خوفاً من الحرب، تلك الممتلكات شملت الأراضي والمنازل صودرت بتهمة الحزب حتى لو كان أصحابها مدنيون وغير منتمين إلى الحزب مطلقاً). يضيف برهوم (هذا ما جرى مع عدد من إخوتي الذين غادروا المنطقة، استيقظنا صباحاً لنجد عبارات “مصادر أمنياً” على المنازل ومُنعنا من دخول أراضي إخوتي بحجة أنهم من الحزب، في النهاية فهمنا أنك حالَ كونك خارج المنطقة فأنت من الحزب وأملاكك مصادرة). ويؤكد مسعود أن السياسات الأمنية المتبعة والمصادرات التي جرت كانت بهدف السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي الزراعية الخصبة وقد شملت المصادرات مساحات هائلة من أراضي السكان، إضافة إلى أراضٍ كانت بالفعل مدارة من الوحدات الكردية، إضافة إلى فرض ضرائب كبيرة على أي نشاط زراعي في المنطقة، حتى أن الضرائب فرضت على استخدام مياه نهر عفرين إذ يفرض مبلغ قدره 800 ليرة سورية -ما يعادل دولارين- لسقي كل دونم واحد من مياه النهر بحسب مسعود وآخرين من سكان منطقة جنديرس، من الممكن أن تصل مساحة الأراضي التي صودرت في محيط جنديرس فقط إلى أكثر من 200 هكتار من الأراضي الزراعية والمشجرة.
- من قمح الصيف إلى زيتون الشتاء
تلك المساحات الواسعة التي صودرت في أثناء اقتحام المنطقة التي ما زالت في ازدياد مطرد يوماً بعد يوم من جراء الإجراءات الأمنية المشددة التي تهدف في الحصيلة إلى مصادرة أكبر مساحة من الأراضي لم تكن كافية وحدها لتحقيق المكاسب الاقتصادية المنشودة في المنطقة فكان لا بد من السيطرة على الزراعة كلياً. وقد جرت السيطرة على الموارد الزراعية سيطرة كاملة ابتداء من موسم القمح في العام المنصرم الذي كان على وشك النضج في أثناء عملية غصن الزيتون مروراً بمواسم الخضار والفواكه الصيفية ووصولاً إلى موسم الزيتون، تلك المواسم كلها جرت السيطرة عليها كلياً أو جزئياً. بالنسبة إلى القمح فقد مُنع السكان من حصاده بحجج متعددة وقد بيعت هكتارات من الأراضي المزروعة بالقمح في مزادات علنية على مرأى من أصحابها، وكان أغلب من يربح تلك المزادات قيادات من الفصائل المتحكمة في المنطقة أو مقربون منهم. يقول مسعود المزارع الكردي: (في موسم القمح الماضي فوجئنا بعد عودة الهدوء إلى المنطقة وتوقف المعارك أن أراضي لنا كانت مزروعة بالقمح حصدت من دون علمنا وعند مراجعة المعنيين بقضيتنا قيل لنا إن موسم القمح هذا صودر وبيع في مزاد علني وأنه بإمكاننا زراعة الأرض مرة أخرى إن شئنا أو السماح لمن كسب المزاد بزراعتها مرة أخرى مقابل مبلغ مالي زهيد) . وعن موضوع القمح يقول برهوم أيضاً: (لقد حصدت الفصائل قمح الموسم الماضي كاملاً سواء أكانت الأرض للسكان أم مصادرة من الحزب، ملايين من الدولارات تقدر بها المساحات المزروعة بالقمح في سهول عفرين جرت السيطرة عليها ومن دون أي حجج في هذه المرة). أما في ما يتعلق بالمواسم الأخرى كالخضروات والفواكه فقد فرض حصار على المنطقة ولم يجد المزارعون طريقاً لبيعها إلا عبر مناطق إدلب أو مناطق درع الفرات، يقول أبو سوار وهو صاحب بستان فواكه من عفرين: سواء سلكت طريق إدلب أم طريق درع الفرات فإنك ستدفع ضرائب كبيرة للحواجز الأمنية المنتشرة على الطرقات من أجل أن يسمح لك ببيع محصولك الذي سبق وقد دفعت عليه ضرائب سقايته من نهر عفرين الذي أصبحت مياهه تباع للمزارعين.
- مليونا دولار لفيلق الشام (ممنوع خروج الزيت من عفرين)
يضيف أبو سوار: (الحال اليوم يوصف بأن أهالي عفرين يزرعون والفصائل بالفعل هي من تجني المحصولات لكن الأموال والعائد الاقتصادي الضخم للمزروعات يعود إلى الأتراك الذين يأكلون تعب الفلاح وجني الفصائل). ويؤكد أبو سوار أن منع خروج الزيت من عفرين في موسم الزيتون الماضي هو أكبر دليل على أن الأتراك هم الرابح الأكبر وأن جميع الأموال منتهاها إلى يد الأتراك. وعن قضية منع خروج الزيت من عفرين في الموسم الماضي حدثنا مصدر مطلع في أمن أحد الفصائل في منطقة عفرين رفض ذكر اسمه لحساسية القضية فقال: (موسم الزيتون كان مختلفاً عن القمح وغيره من المواسم التي شاركنا فيها الأتراك في المرابح، لقد أراد الأتراك موسم الزيتون كاملاً بين أيديهم وعملوا بجهد قبل الموسم بأشهر على فرض سيطرة تامة على الزيتون في المنطقة عبر آلية اعتمدوا فيها على مخاتيرهم ومجالسهم المحلية المنتشرة في البلدات). وأضاف المصدر الأمني (لقد أعلم الاتراك المتنفذين في الفصائل بضرورة إبعاد العناصر عن حقول الزيتون وأصحابها ومن ثم جرى التعميم على المزارعين بوجوب عصر الزيتون في معاصر داخل منطقة عفرين ومنع إخراج المحصول لعصره خارج المنطقة). ويتابع المصدر (فرضت لاحقاً رسوم مالية قدرها 10 في المئة من كمية الزيت على كل المزارعين داخل المعصرة ومنع أيضاً إخراج الزيت من عفرين إلى خارج المنطقة تحت طائلة مصادرة الكميات المهربة). يقول المزارع برهوم عن الزيت (لقد دفعنا الضرائب في المعاصر الخاضعة للفصائل ثم وجدنا أنفسنا مجبرين على بيع المحصول للأتراك بسبب منع إخراج المحصول من المنطقة، الحواجز التابعة للفصائل كانت تفتش عن الزيت طوال مدة الموسم، بينما كان الأتراك يفتتحون مراكز لشراء الزيت من المزارعين). ويضيف مسعود الذي باع محصول الزيت الموسم الماضي للأتراك قائلاً: (الفصائل فقط عصا في يد الأتراك، لقد سمعنا أن فيلق الشام حصل على مليوني دولار أجراً له على حراسة المحصول ومنعه من الخروج من المنطقة، لكن الصفقة الكبرى أنجزها الأتراك إذ قاموا بشراء كامل المحصول وبسعر 30 دولاراً للتنكة (20 لتراً) ومن ثم باعوا محصول الزيت الوارد من عفرين بأضعاف ما اشتروه حاصدين من ذلك مبلغاً لا يستهان به مطلقاً). وقد حصلنا من مصدر خاص على معلومات تفيد أن الاتراك لاحقا قاموا بصفقة لبيع الزيت إلى إحدى الدول الغربية، إذ وصل إجمالي ربح الصفقة إلى 70 مليون يورو إلا أننا لم نستطع التأكد من مدى صحة هذه المعلومات أو الأرقام.
- الشرطة العسكرية
يؤكد عدد من سكان عفرين أن تجاوزات ليست بصغيرة حصلت خلال موسم جني الزيتون، إذ تمكن عدد من الراغبين في بيع الزيت خارج المنطقة من ذلك عن طريق التعاون مع شخصيات نافذة في المراكز الأمنية للفصائل. هذه التجاوزات للخطة التركية من بعض الأمنيين في الفصائل، إضافة إلى تجاوزات أخرى كبيرة في حق السكان انتشرت روائحها ولم يعد يتمكن الأتراك من إخفائها، دفعت بالقيادة التركية إلى استبدال بعض قادة الجيش والمخابرات التركية في المنطقة لكن التغيير الأكبر كان في تفعيل الشرطة العسكرية التابعة للمعارضة التي أدخلها الاتراك لزيادة نفوذهم وضبط الأمور أكثر. الأمر اللافت في قضية الشرطة العسكرية أنها جاءت لضبط الأمن والوقوف على التجاوزات التي وقعت في منطقة عفرين؛ إلا أن ما يجري مخالف وبصورة كبيرة للغاية التي وجدت لأجلها تلك الشرطة، قال أبو سوار عن موضوع الشرطة العسكرية: (يعني “جبناك يا عبد المعين لتعين” في إشارة منه أن الشرطة التي أتت للحد من الفساد هي من أصبحت تديره وذلك في ملفات عدة وفي مستويات عدة؛ أمنية وعسكرية واقتصادية قد تخصص لها تقارير منفصلة. بالنسبة إلى الأمر الاكثر إزعاجا للمزارعين حاليا بحسب مسعود هو كثرة الحواجز التابعة للشرطة العسكرية في أثناء نقل المحصول وعليك بحسب مسعود أن تدفع في كل مرة تمر على حواجز مبالغ مالية لعناصر تلك الحواجز. برهوم أيضاً قال: إن أمر الحواجز التي تتقاضى مبالغ بطريقة غير رسمية أمر مزعج جداً وأشار إلى أن تلك الحواجز باتت معروفة التكلفة وهي 200 ليرة سورية للحاجز، إضافة إلى ذلك نبهنا برهوم أن عدداً من المزارعين ما يزالون غير قادرين على الوصول إلى أراضيهم الزراعية في المناطق على طول الحدود التركية السورية محيط عفرين. وبحسب مصادر من تلك المنطقة فإنه يمنع وصول أي من الأهالي إلى تلك المناطق التي تغلقها بشكل كامل حواجز للشرطة العسكرية والجيش التركي وتتحكم فيها وبمواردها بحجة قربها من الحدود منعاً لعمليات التسلل والتهريب.
- عدوى الرشوة وصلت إلى الجنود الأتراك
مؤخراً أجرت القوات التركية التي تنتشر في مناطق عفرين تغييرات عدة في قياداتها وذلك من أجل الحد من الفساد الذي بات يتفشى في صفوف القيادات ووصل مؤخراً إلى العناصر على الحواجز الذين أصيبوا بعدوى الـ 200 ليرة تركية بحسب ما وصف أبو سوار الذي قال: إن العلاقة كانت في بداية الأمر رسمية جداً مع القوات التركية، لكن لاحقا أصبح الجنود الأتراك على حواجزهم وبحسب مواقع مسؤوليتهم يحاولون أيضا استغلال المواطن وتحصيل بعض المكتسبات المالية. مسعود أيضاً أشار إلى حالة من الفساد المالي لبعض العناصر الأتراك من مصادرة بعض الأملاك لشخصهم أو محاصصة بعض حواجز المعارضة على الأتاوات والضرائب اليومية، لكنه أشار أيضاً إلى أن تلك الحالات لا تعدو كونها حالات فردية نتيجة انعدام المراقبة والمحاسبة على الجنود بحسب وصفه. في النهاية إن تركيا التي سيطرت على المنطقة بحجة محاربة التنظيمات الإرهابية تحاول قدر الإمكان الاستفادة من موارد المنطقة بكل نواحيها والزراعية منها على وجه الخصوص معتمدة على قوات المعارضة على الأرض وشبكة من المخاتير والمجالس المحلية الذين يمثلون دور الحاصود الذي يقضي أيام الموسم وهو يجني المحصول ليقدمه في نهاية الموسم للإقطاعي (التركي) الذي يمنحه ما يبقيه على رمق الحياة مقابل أتعابه. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.