أبعد من استقالة ليز تراس
أعلنت عجزها واستقالت، والتصريح الذي أطلقته، يعني الكثير، فقد جاء في كلام “ليز تراس”: “في ظل الوضع الحالي لا يمكنني إتمام المهمة التي انتخبني حزب المحافظين للقيام بها”.
استقالة ليز تراس لها الكثير من المعاني، أولها أن “من يعجز يرحل”، وهذا أمر من الصعب على مواطني دول الاستبداد تفهمه فمن يعجز في مثل هذه الدول، يحيل عجزه إلى مؤامرات الخارج ليعزز في أنصاره ومواطنيه جنون الارتياب، مكررًا حفلاته الخطابية الطويلة المملة، ومن بعدها ينشر قواته في الشوارع لكمّ أفواه أيّ صوت يعلن عجزه أو يشكك في قوته وقبضته.
وفي المعنى الثاني، فاستقالتها تطال أوربا بأزمتها، فالقارة بأكملها أمام موجات تحوّلات كبرى يصعد اليمين فيها دون أن يستكمل وصوله إلى السلطة، وهذا ما شهدته الانتخابات الرئاسية الفرنسية وحضور مارين لوبان فيها حتى اقتربت من القاعة الزجاجية في الاليزيه، كما الحال في مجموعة من الدول الأوربية التي ينتعش فيها اليمين بمن فيها ألمانيا وقد استعادت الحركة القومية الألمانية أجزاء واسعة من شوارعها دون التمكّن من الوصول الى السلطة بعد.
أوروبا في أزمة، هي أزمة ناتجة عن الاستنقاع الذي شهدته مابعد تفكك الاتحاد السوفييتي واستئثار الولايات المتحدة بالقطب الواحد، وقد طالت هذه الأزمة بما جعل الدورها الأوروبي ملحقًا بالدور الأمريكي، وقد فقدت أوروبا القدرة على استعادة الدور كما استعادة شخصيات أوروبية وازنة من مثال ونستون تشرشل أو شارل ديغول، ولمّا جاءت الحرب الروسيةـ الأوكرانية ابتدأت الشعوب الأوروبية تتحسب للصقيع قبل وقوعه وللكساد قبل حصوله، جزء من ناسها يعتقدون بأن الانحياز الأوروبي لأوكرانيا، هو انحياز حصاده للولايات المتحدة وتكاليفه من دافع الضريبة الأوروبي، وتتعالى الأصوات وربما سترتفع حدّتها مع اشتداد موسم الشتاء الذي يعني هزيمة أوروبية بمواجهة روسيا، تعيد وإن بأدوات مختلفة هزيمة نابليون على بوابات موسكو، حيث الجنرال “ثلج” أطاح بالامبراطور نابليون بونابرت.
أوروبا اليوم في حالة “فوضى”، وكانت عناوين الصحف الاوروبية الصادرة عقب استقالة ليز تراس، قد أجمعت على وصف الأوضاع بأنها “فوضى”، كان هذا غداة جلسة كارثية في وستمنستر تحوّلت إلى “سوق مزايدات”. واعتبرت صحيفة “ذا صن” أن ليز تراس باتت “محطمة”، و”سلطتها مهشمة بعد يوم سادته الفوضى العارمة”، مشيرة إلى “حكومة بصدد الانهيار أمام أعيننا”.
ملفات عديدة بمواجهة أوربا اليوم، وقد واجهت الرئيسة الانكليزية، ومن بينها “ملف الهجرة”، وكان على ملف كهذا أن يدفع إلى استقالة وزيرة الداخلية سويلا برايفرمان، ومن بعده جاءت اقالة وزير المالية كواسي كوارتينغ المقرب من تراس وكان قد أقيل على خلفية خطة خفض الضرائب واستبدل بجيريمي هانت الذي سارع إلى إلغاء الخطة بشكل شبه كامل. وكانت برايفرمان استقالت بعد “سجال مباشر محتدم” مع تراس وهانت “على خلفية مطالبتهما إياها بتليين موقفها في ملف الهجرة”.
بعد ملف الهجرة، يأتي اضطراب الأسواق، فقد واجهت تراس انتقادات لعدم تنحيها، بعدما حمّلت الوزيرة كوارتينغ مسؤولية خطة الموازنة الملغاة التي تسببت باضطراب في الأسواق. وكتبت برايفرمان “الادعاء بعدم ارتكاب أخطاء والاستمرار وكأن أحدا لا يرى أننا ارتكبناها على أمل أن تستقيم الأمور بسحر ساحر، لا ينم عن جدية في العمل السياسي”وجاءت استقالة برايفرمان بعد ساعات قليلة على جهود بذلتها تراس لتبديد الشكوك حول مصير ولايتها بتصديها للانتقادات في البرلمان. ودافعت تراس عن نفسها في مواجهة دعوات للاستقالة من المعارضة بعدما اضطرت للتراجع عن برنامجها الاقتصادي. وقالت بنبرة تحد “أنا محاربة ولست شخصا ينسحب”.
غير أنها انسحبت، ومع انسحابها سيرتفع منسوب الفوضى في بريطانيا، وهي فوضى لابد وتجتاح القارة باكملها فالكساد على الأبواب، والحرب الأوكرانية الروسية ستطول، في الوقت الذي ستدفع أوروبا تكلفته، ومع اشتداد المأزق يستعيد اليمين الأوربي مكانته وهذا ماوقع لايطاليا وقد ارتفع صوت بينيتو موسوليني من جديد ووصل إلى السلطة دون منافس يحسب حسابه.
كل هذه الوقائع ليست سوى تحميات للرقصة الأوروبية الطويلة، الرقصة التي يستعيد فيها الأوروبيون الدولة الوطنية التي سينتزعونها من “العولمة”، أو الاستمرار في التبعية للولايات المتحدة وقد باتت أثمان التبعية مرتفعة على المواطن الأوروبي.
ماتشهده بريطانيا مشهد من فلم طويل.. اكبر من استقالة وأبعد من وزيرة.