أمام العرب واحد من خيارين مكّة أو طهران.. أحدهما يلغي الآخر
الطبيعة لاتتقبل الفراغ؟ هو الأمر كذلك، وكذا الحال في السياسة، وها نحن اليوم في العصر الذي تقوم فيه إيران بإملاء الفراغ، ليس لخيار من الناس، بل لأنه :
ـ الفراغ.
يحدث ذلك في العراق، فالأمريكان السائبون، تركوا العراق سائبًا والجدران الواطئة، تمنح الفرصة مضاعفة للصوص، وهكذا باتت إيران صالحة للقفز فوق جدران العراق واحتلاله.
الحال في لبنان، قد يكون أكثر وضوحًا، فالصيغة اللبنانية، قامت على الولاء السني للمركز العربي، وهو مركز يتجول ما بين بغداد، القاهرة، والمملكة العربية السعودية.
بغداد انهارت بالاحتلال الأمركي، ومصر انشغلت بمشاكلها الداخلية، ولم يعد فيها من يقول :”أرفع رأسك أيها العربي”، أما المملكة، فقد تخلت كليًا أو جزئيًا عن لبنان، سواء لغسل يدها من سياسات سعد الحريري وتحالفاته، أقلها وقد رفعت ميشال عون من موقع “المرفوض مسيحيًا ولبنانيًا” إلى كرسي الرئاسة، هذا بالاضافة للانشغال بترتيب بيتها الداخلي.
تخلي المملكة عن لبنان، فتح الساحات كل الساحات للإيرانيين، بدءًا، من تشكيل الحكومة إلى “غالون” المازوت، فاستفرد حزب الله بلبنان، وبات القوة الوحيدة فيه حتى بات صاحب البلد وأم الصبي، أي كان الصبي.
قد تكون المملكة معذورة في موقفها من سعد الحريري، ومن هفواته التي لاتعد ولا تحصى، ولكن سنة لبنان، ليسوا سعد الحريري ولا الحريرية السياسية، ولبنان ليس حزب الله، وهو الحزب الذي يعني فيما يعنيه، ترحيل سنة لبنان ومسيحييه ودروزه، فلا الكتائب (عونيين) ولا القوات (عونيين)، ولا حتى آل الجميل يتقبلون عون وتحالفه مع حزب الله، أما تخلي المملكة عن لبنان، فلايعني سوى:
ـ دعوا لبنان لإيران.
وما الذي يعنيه ذلك أيضًا؟
يعني فتح الطريق للتبشير الخميني، والسلاح الخميني، ولدولة الخميني التي ترسو سفنها على أهم موانئ المتوسط، وما أن يستقر حالها، حتى تتحول إلى تهديد كامل لكل (العروبة) والإسلام (بشقه السني)، وتحقيق الهلال الشيعي الذي يصرّح به الايرانيون، فيما تتكتم عليه أذرعهم، وهو الهلال الذي سيرفضه قسم كبير من الشيعة العرب، الذين لابد ويفضلون السيستاني على خامنئي، ومكة على طهران، واليوم.
يدخل لبنان في مرحلة ما بعد االانهيار، وليس من عامل انقاذ للبنان سوى (العرب)، والعرب هنا بداية من القاهرة، مرورًا بمجموعة الدول الخليجية من المملكة الى الإمارات، فإنقاذه من الزحف الإيراني إما يكون على أيديهم، وإما أن يترك لقمة يمكن هضمها بعد ابتلاعها من طهران، وحكاية بواخر المازوت ستكون في دلالاتها اكثر شأنًا من برميل مازوت، فهذا هو الحزب يخطط لاستخدام شركة تابعة لبيع النفط الإيراني في لبنان فيما الحكومة اللبنانية الجديدة لم تقل ولا كلمة واحدة ولم يعلق أي وزير من حكومة الائتلاف التي شكلت بعد عام من المداولات على الكيفية التي سيؤثر فيها تحدي حزب الله على لبنان، ومن برميل المازوت سيتمدد حزب الله ليضع قبضته الاقتصادية على البلد بعد أن وضع قبضته العسكرية والسياسية عليه، وحين تسأل الناس اللبنانيون سيقولون لك:
ـ وما الذي فعلته الدول الأخرى تجاهنا؟
ومتى يأتي ذلك؟
يأتي في لحظة لم يعد يتمتع فيها هذا الحزب بالشعبية والدعم الذي كان يحظى به من قبل بين الشيعة. وبات الكثير منهم يهتم بالتجارة وليس بالمقاومة التي يرفع شعارها. فالجيل الشاب في لبنان ولد في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية والسيادة السورية على لبنان التي ساعدت حزب الله على الوصول إلى السلطة، ومع ذلك لم تتغير السياسة اللبنانية كثيرا خلال العقد أو العقدين الماضيين وكذا قواعد اللعبة الأمريكية في التعامل مع أزمات لبنان المتقطعة. وسنحت اليوم فرصة كي تغير إدارة بايدن المدخل بالتعاون والتنسيق مع المملكة العربية السعودية، وتستفيدان من ضعف الحزب وتحدثان التغيرات التي تجنّب لبنان من أن يكون نهاية الهلال الشيعي الذي تطمح له إيران، ، ولكن ذلك لن يكون ممكنًا في ظل التخلي الخليجي والرخاوة الأمريكية فيما يتعلق بلبنان.
في عام 2019 خرج اللبنانيون من كل الطوائف للاحتجاج على الأزمة الاقتصادية والسياسية وللمطالبة بتغيير النظام القائم على المحاصصة الطائفية. وظهرت منذ ذلك الوقت الكثير من البدائل القوية عن الحزب وبدأت بالتعبير عن مواقف معارضة. وتشمل هذه شبكات رجال أعمال وطلاب شاركوا في التظاهرات التي عارضها الحزب وكذا الناشطين الأذكياء على منصات التواصل الاجتماعي والمهنيين الشباب الذين لا يتذكرون أي شيء عن سنوات ما بعد الحرب الأهلية والتي جلبت الحزب إلى المجال السياسي. وما يهم هذه الجماعات هي الأمور الاجتماعية والاقتصادية وليست مهتمة بالسياسة أو الأيديولوجيا. وفي الوقت نفسه بات الاقتصاد الموازي الذي أقامه الحزب ينهار بسبب تراجع الدعم المالي الإيراني ومشاركات الحزب في النزاعات العسكرية الإقليمية التي جففت خزينته، كل هذا حد من قدرته على توفير الخدمات الاجتماعية والوظائف في القطاع غير العسكري.
وهناك ملامح عن تصدع بين الحزب وقاعدته الدعم التقليدي له. وهو في نزاع متواصل مع حركة أمل التي طالما تحالفت معه. وتعرض حلفاء له آخرون للعقوبات الأمريكية بعدما كشفت التظاهرات في 2019 عن فسادهم. وفي دراسة مسحية أجريت هذا العام وجدت أن التيار الوطني الحر، الحليف المسيحي الرئيسي لحزب الله لا تتعدى شعبيته بين المسيحيين عن 15%. ويعاني الحزب من تباين في داخله بين صفوف المقاتلين وغير المقاتلين. فمن جهة يدفع الحزب رواتب المقاتلين بالدولار أما الموظفين في القطاعات المدنية فيحصلون على رواتبهم بالليرة اللبنانية التي فقدت 90% من قيمتها. وبناء على هذا، فظهور الجماعات الجديدة قد يخرج لبنان من دوامته.
ويشكل الشيعة 30% من سكان لبنان، وهم أهم قطاع لبناء تيار مضاد لحزب الله، لأنهم العماد الرئيسي له. ويمكن للسنة والدروز والمسيحيين دعم بديل عن حزب الله، نظرا لإحباطهم المتزايد من السياسة المحطمة في لبنان. وتقول إنها قابلت الكثير من رجال الأعمال الشيعة في لبنان وأفريقيا والخليج ممن عبروا عن استعداد للعمل مع المجتمع الدولي وبعيدا عن فلك الحزب ومن أجل تقديم قروض ودعم مالي. ويقومون بتوفير الدعم المالي والسياسي للناشطين ومنظمات المجتمع المدني في المدن والبلدات الشيعية، ويهدفون لبناء جذور سياسية حماية لأنفسهم من العقوبات عليهم وإبعاد أنفسهم عن الحزب.
وقبل اغتياله بداية العام الحالي كان الناشط السياسي والمفكر لقمان سليم يعمل وعن قرب مع هذه الجماعات ومنظمات المجتمع المدني ورجال الأعمال. ويعطي هذا الحماس طريقا جديدا وفرصة للولايات المتحدة والمجتمع الدولي. وبدلا من استمرار دعم المؤسسات اللبنانية التقليدية الضعيفة والتي يسيطر عليها حزب الله، على الولايات المتحدة الاستثمار في هذه الجماعات غير الرسمية. وستكون النتيجة منظمات مجتمع مدني مشكلة بشكل جيد وتتمتع بعلاقات مع المؤسسات الأمريكية والأوروبية والدولية وتركز على خلق فرص اقتصادية وتقوي الأصوات السياسية الجديدة وتمنح بديلا ذا معنى عن حزب الله للشيعة الذين يشعرون بالإحباط.
ويجب أن تضم الجماعة رجال أعمال وشيعة في الشتات وناشطين وشخصيات شيعية مؤثرة. ويمكن أن تعمل المؤسسات المانحة في الولايات المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي مع هذه الجماعة لتشكيل وتطوير إدارتها. وما يهم هو أن يتم كل هذا خارج مؤسسات الدولة والأحزاب السياسية. ويجب على المجتمع الدولي التركيز على الخدمات الأساسية في مجال الاقتصاد، والصحة، وحماية الناشطين والصحافيين. ويتم عمل هذا من خلال دعم المبادرات الخاصة والمنظمات الشعبية التي تعمل على توفير الخدمات في المجتمعات الصغيرة والمنظمات الإعلامية المستقلة.
ويعد توفير الفرص الاقتصادية مهما نظرا لانهيار القطاع الخاص في لبنان واختفاء الطبقة المتوسطة تقريبا. وبات الشيعة بين خيار الاعتماد على حزب الله الذي يوفر الأعمال أو الجوع.
ايران سدّت الكثير من الفراغات، تلك حقيقة، وما يتفق عليه كل من حزب الله وإيران هو القوة الناعمة، ففي الوقت الذي تدعم فيه الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون الأحزاب السياسية وتقدم الدعم الأمني للجيش وبرامج التنمية، مولت إيران مجتمع الأعمال الشيعة والمنظمات الإعلامية والتعليمية والمبادرات غير التقليدية مثل الأمن الإلكتروني والموسيقيين وجماعات الشباب المؤيدة لإيران، مثل كشافة المهدي. وهو ما أدى لخلق اقتصاد مواز. ومع ضعف القوة الناعمة لحزب الله فهناك فرصة مماثلة للمملكة لكي تستخدم نفس الوقت وتساعد على خلق فرص عمل. وانتظار تغير حزب الله والطبقة السياسية هو مضيعة للوقت، لكن ما يتغير هو المجتمع اللبناني، ولدى المملكة، وكذلك الولايات المتحدة ، فرصة للاستفادة من هذه التغيرات والاستثمار بالمجتمع المدني والمساعدة على ظهور بديل قابل للحياة عن حزب الله.
ـ مرة ثانية:
الطبيعة لاتقبل الفراغ، فيما الإيرانيون يتسللون من ثقوب في الجدار.