أخر الأخبار

الانفصال طريق إلى الجغرافيا المسجونة

نبيل الملحم

هل تبرر “فورة الدم” أو “غباء القراءة وسوء الحساب” الانتقال من طغيان الدولة المستبدة، إلى طغيان العزلة والقطيعة مع التاريخ والجغرافيا؟

سبق وحدث هذا في أكثر من مكان، حدث في السودان وفي أماكن أخرى، ففي السودان منبع النيلين، صوّت الجنوبيون في استفتاء 2011 على الانفصال عن السودان.. غلّبت الغريزة على العقل، والعاطفة على الحسابات، فانبثقت دولة جنوب السودان.. في لحظة التأسيس بدا الأمر وكأنه انتصار للتاريخ والجغرافيا معاً، لكن سرعان ما تحوّل الحلم إلى كابوس:

ـ حروب أهلية، مجاعات، فساد، عجز كامل عن إدارة الدولة، حتى صارت البلاد نموذجاً كلاسيكياً لـ”الدولة الفاشلة”.

اليوم، نسمع في السويداء السورية أصواتاً تردد نغمة مشابهة: الاستقلال والانفصال عن سوريا، غير أن السؤال الجوهري الذي يجب أن يُطرح:
ـ إلى أين؟

السويداء ليست سوى محافظة محاصرة جغرافياً، شحيحة الموارد، بلا منافذ بحرية، ولا موانئ تجارية، ولا مطارات دولية، ولا حدود مفتوحة قادرة على تأمين حياة اقتصادية مستقرة.

ـ أي كيان يولد هناك سيكون مجرد “جغرافيا في سجن المكان”، لا دولة قابلة للحياة.

التجربة علمتنا أن الكيانات الصغيرة حين تتفكك من دولها الأم، تدخل دوامة لا نهاية لها من العزلة، وتتحول إلى رهينة القوى الخارجية، وليس في وسع السويداء أن تبني جيشاً يحميها، ولا اقتصاداً يغذيها، ولا سياسة توازن مع الجوار الملتهب، وحتى لو تم الاعتراف بها دولياً، فإنها ستبقى عاجزة عن توفير أساسيات العيش لمواطنيها، وستجد نفسها مرتهنة للمانحين أو محاطة بالخصومات.

المطالبة بالانفصال، إذن، ليست سوى وهم خطير.. وهم يستهلك طاقة الغضب الشعبي بدل أن يوجهها نحو إصلاح الداخل السوري ككل.. إن حق السويداء، كسائر المدن السورية، هو في دولة عادلة، ديمقراطية، تحمي التنوع وتوزع الموارد بعدالة، لكن الانعزال وراء أسوار “جمهورية جبلية صغيرة” لن يجلب سوى الخيبة، وسيجعل من حلم الحرية قيداً جديداً أشد قسوة.

لقد أثبتت تجربة جنوب السودان أن الانفصال ليس طريقاً للكرامة، بل وصفة جاهزة للفشل، ومن يكرر الدعوة ذاتها في السويداء، إنما يقود الناس إلى “جغرافيا مسجونة”، بلا مستقبل ولا أفق، أما الأهم من المهم، فالناس الهاربون من دكتاتورية المركز، هل يراهنون على الخلاص من الدكتاتورية إياها دون أن ينتجون دكتاتورية أشدّ فظاعة، في “الجمهورية الوليدة”، دون الوقوع في فخ دكتاتورية تعيد إلى اللغة بيت الشعر إياه، لحكيم القصيدة أبو فراس الحمداني:

ـ وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً على المرء من وقع الحسام المهندِ

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى