الجزائر تفرض الدفع الإلكتروني في أسواقها.. الأبعاد والحيثيات
مرصد مينا – هيئة التحرير
عاشت الجزائر على وقع أزمات اقتصادية متتالية، بين فضائح فساد وصراع لوبيات ومواجهات أجنحة السلطة في ظل حراك شعبي يطالب بتغيير جذري في البلاد التي قدم رئيسها مسودة تعديل دستوري يصفها بأنها فارقة لتغير مستقبل الدولة ونقلها إلى حياة جديدة. ومؤخرًا عانت الجزائر من أزمة سيولة خانقة لم تتمكن فيها السلطات عبر منافذها الرسمية من تأمين متطلبات الجزائريين في موسم الأعياد الماضي، من مبالغ مالية تواكب حاجات العيد، ما أثار ضجة وجدلًا وقاد لتغيرات حكومية أجراها الرئيس لبعض المسؤولين.
واليوم اتجهت الجزائر رسميًا إلى التخلص من أسلوب المعاملات المالية النقدية التقليدية، واعتماد اسلوب بطاقات الدفع الإلكترونية، بتعاملات شراء وبيع السلع في المحلات والمتاجر.
عيوب وإشكاليات
لا يمكن فصل إعلان السلطات في قرار الدفع الإلكتروني، عن أزمة السيولة المالية التي شهدتها مراكز البريد في الجزائر. فعلى مدار الأشهر الثلاث الماضية، تداولت منصات التواصل الاجتماعي صور حشود المواطنين أمام مراكز البريد الراغبين استلام أموالهم، الأمر الذي رفضته السلطات حينها ووصفت ما جرى بالمؤامرة التي يقودها أعداء الجزائر، حيث أكدت عدم وجود أزمة للسيولة.
من جهة ثانية، تسببت جائحة كورونا بتعزيز العيوب التي تعانيها أصلًا الممارسة الاقتصادية في البلاد، حيث ساهم غياب الدفع الإلكتروني بانتشار الطوابير الطويلة أمام المحلات التجارية والبنوك والبريد، مما جعل فرض قواعد التباعد الاجتماعي أمرًا صعبًا في بعض الحالات.. كما أن الوباء أعاد التساؤل حول ضرورة التعامل المالي الإلكتروني الذي تصنف الجزائر من أضعف بلدانه.
مسعىً للإصلاح
اعتبر البعض أن توجه السلطات الجزائرية إلى خطوة الدفع الإلكتروني يحمل أهداف استراتيجية عدة، يعكس رؤية السلطة الجديدة بخطوات سريعة نحو عصرنة الحياة العامة في الجزائر.
بدورها، حددت وزارة التجارة تاريخ 31 كانون أول ديسمبر 2020 موعد بداية نهاية الأسلوب التقليدي في الدفع، الذي سيطر على جميع المعاملات التجارية منذ استقلال الجزائر عام 1962. أما المعدات اللازمة للتحول المرتقب فقد توقع، طاهر بو لنوار، رئيس الجمعية الوطنية للتجار والحرفيين، أن تقوم السلطات بتوفير المعدات على مرحلتين، بداية بالمتاجر الكبرى، ثم تليها المحلات الصغيرة.
وتشير البيانات أن القرار يهدف لتوزيع أكثر من نصف مليون جهاز قارئ للبطاقات المالية المغناطيسية على التجار، البالغ عددهم حوالي مليون تاجر يعملون في الجزائر.
تخلف قديم
تعتبر الجزائر متخلفة لدرجة كبيرة في قضايا التعامل النقدي الرقمي، حيث تسبب ذلك بأزمات سيولة متكررة واحتشاد مئات الجزائريين في طوابير معتادة باتت مظهرًا يوميًا للحياة هناك (ومثار سخرية لدى الشعب الجزائري) مع طغيان المعاملات التقليدية، وتحكم السوق السوداء في حركة الأموال.
من أمثلة معاناة وتراجع الجزائر في خدمات الدفع الإلكتروني، الأزمة المرتبطة بقرار السلطات السعودية قبل عامين بحرمان أربعمائة ألف جزائري، (المعدل السنوي الوطني لزوار البقاع المقدسة)، من أداء العمرة، إذا لم تلتزم وكالات السياحة بالدفع عبر الطرق الإلكترونية.. الأمر الذي يعكس حقيقة تلك الأزمة. وهذا ما قاله “بولنوار” في حواره مع “سكاي نيوز عربية”، إن الجزائر تأخرت كثيرًا بدخول هذا العالم الرقمي، وإن هذا التوجه سيضفي مزيدًا من الشفافية على النشاط التجاري.
رفض دفين
ينتشر بشكل واسع في الجزائر، استعمال الهواتف الذكية، يدخل عبرها المستخدمون إلى عوالم البحث والأخبار والتواصل الاجتماعي وعروض التجارة والترفيه، كما يحمل الملايين منهم البطاقات البنكية والبريدية، غير أن الأغلبية تحجم عن دخول عالم الدفع الإلكتروني. إذ يشتكي المتعاملون من عراقيل مادية، كما يثير عنصر الثقة مخاوف عديدة لدى المستهلك.
وتحدث ردات الفعل تلك رغم استكمال المنظومة التشريعية على مدار 25 سنة، آخرها تقنين التجارة الإلكترونية، وإلزام قانون المالية التجار بالتزود بنهائيات الدفع الإلكتروني مع نهاية 2019.
أما رئيس جمعية حماية المستهلك، مصطفى زبدي، فتخوف – وفق لسكاي نيوز- من مقاومة بعض المتعاملين الاقتصاديين للقرار الأخير، الذي قد يؤدي إلى الكشف عن رقم أعمال التجار، ليبين بعض من تلك المخاوف: “الذين اعتادوا على التهرب الضريبي لن يمرروا القرار بسهولة”. في حين اعتبر “رضا طير”، خبير الاقتصاد السلوكي، في تصريحات إعلامية قديمة، أن “التخلف رهيب في مجال الدفع الإلكتروني بالجزائر، حيث أصبح محط كل الأنظار في العالم، وانعكس سلبا على صورة البلد وإمكاناته وطموحه، في ظل نظام معولم وأكثر قوة، من ناحية كفاءة أنظمة المعلومات المالية والتقنية”.
وفسر لوسائل إعلام، ارتباط الوضع بضعف الإرادة السياسية، بسبب سيطرة “لوبيات” ريعية، تشتغل أساسا في الأسواق العينية والنقدية الموازية، التي لا يمكنها أن تتعايش مع رقمنة الإدارة. ليؤكد أن الجماعات البيروقراطية تنتعش من أموال مجهولة المصدر في الغالب، وتشغلها في إطار عمليات تبييض بأسواق مثل العقار والسيارات. ثم أوضح أنها عطلت كافة المشاريع العمومية في ميدان المالية والنقد والضرائب والأنظمة التجارية، بهدف إيجاد حالات الارتياب في البيانات، والمحافظة على معدل الاستفادة بطريقة متسارعة.
خطوات الحكومة
أدرج قانون المالية لسنة 2020 تعديلات على نظام الضريبة الجزافية على الذين ينشطون في المهن غير التجارية، حيث تقرر إلغاء الضريبة على القيمة المضافة للسنتين الأوليين من استخدام الدفع الإلكتروني.
تريد الحكومة الجزائرية البدء في هذه الخطوة شهر يناير كانون الثاني القادم، عبر المحلات الكبرى، ويرى المراقبون استحالة تعميمها على كامل أنحاء البلاد، دون تهيئة مناخ الثقة بين الزبون والتاجر، خاصة وأن الجزائر حاولت منذ عامين التوجه إلى هذه الخطوة، إلا أنها فشلت وظلت مقتصرة على نطاق ضيق وفي بعض الفنادق والمطاعم الكبرى.
أما خبراء الاقتصاد، فكان رأيهم أن هذه التوجه سيكون مقدمة لخطوة أهم تتعلق بإعادة تنظيم سوق الصرف من خلال فتح مكاتب صرف العملة الصعبة.. في ظل خسائر كبرى للخزينة الجزائرية بسبب استمرار المعاملات خارج السعر الرسمي في ظل سيطرة السوق السوداء على حركة العملة الصعبة (مع التنويه بوجود فرق اسعار بالتصريف بين السوق السوداء والبنوك).
علاج ناجع
يتوقع أن يدعم القرار قانون محاربة تبيض الأموال لعلاج أزمة تدهور العملة الجزائرية والحفاظ على سعر الدينار. كما أن إلزام الشعب باستخدام الدفع الإلكتروني يستوجب إدخال مليارات العملة المتواجدة خارج البنوك إلى تلك الحسابات بهدف تعبئتها في البطاقات، ما يعني سماخية خاصة للدولة بمعرفة كمية النقد والسيولة ومصادر الثراء غير المشروع وغيرها من التداخلات (ما يفسر ممانعة البعض لتلك القرارات) .. وهو أمر يشابه لجوء السلطات لطباعة عملة جديدة وسحب القديمة من الأسواق.
الخبير الاقتصادي والمالي، نبيل جمعة، اورد في مقابلة مع سكاي نيوز عربية، أن السياسية المالية التي اعتمدها نظام بوتفليقة السابق، أنتجت تركة ثقيلة على السلطات الجديدة، مما دفع لتراجع القدرة الشرائية للمواطن وارتفاع نسبة التضخم، بعد أن اعتمدت حكومة عام 2014 سياسية نقدية يصفها خبراء الاقتصاد بالفاشلة، استنزفت أكثر من 57 مليار دولار من احتياطي الصرف واختلالات في ميزانية التجارة الخارجية وعجز سنوي.
تجارب وفشل
قامت حكومة الوزير الأول الأسبق، أحمد أويحي بطباعة أكثر من 6500 مليار دينار، بما يساوي 55 مليار دولار، خلقت أزمة مالية داخلية تندرج في خانة الديون الداخلية في خطوة وصفت محليًا بورقة النظام السابق الأخيرة لإنقاذ مشروع الولاية الخامسة لبوتفليقة، قبل أن تغرق في دوامة الحراك الشعبي في 22 فبراير شباط، التي أطاحت بأويحي وكل مخططاته في هذا الإطار.
في حين حذر كثير من الخبراء في وقت سابق، من خطوة طباعة النقود، وكانت نتيجة تجاهل التحذيرات صرف نصف المبلغ المطبوع، ويجهل إلى غاية اليوم مصير المبلغ المتبقي الذي يعادل 29 مليار دولار.
ضرورات ملزمة
يستوجب قرار رقمنة القطاع المالي، وفق خبراء، تطوير قطاع الاتصالات وحل مشكلة تدفق شبكة الانترنت.. ما يفسر دعوات الرئيس تبون الأخيرة وأوامره بضرورة حل الاشكالية في أقرب وقت.
إن ضرورة توفير البنية التحتية وشبكة ربط بالإنترنت ذات تدفق سريع ونوعية جيدة بين المستعمل من حاسوبه أو هاتفه الذكي والمؤسسات البنكية التي يتعامل معها التاجر والمشتري، والمؤسسة المكلفة بالنقل وكذلك شركة التأمين، حيث تكون فعالة طوال أيام الأسبوع من دون انقطاع، ناهيك عن ضمان حلول لتأمين الأجهزة والشبكة والبرامج ضد الفيروسات والاختراقات والتعطيل.. أمور مفصلية وفق المختصين… يضاف لها تمكين المتاجر من الدفع الإلكتروني بأسعار معقولة ومدعمة، ثم العمل الجدي على تطبيق الإطار القانوني لمعالجة الاختلالات والنزاعات التي تقع جراء هذه المعاملات الإلكترونية.
ويستخدم أكثر من 22 مليون مواطن الانترنت، ويمتلك معظمهم حسابات على الفيسبوك، أي بمعدل نصف السكان وذلك بحسب أخر الإحصائيات الرسمية لعام 2020. والملفت للانتباه أن موقع “واد كنيس” الخاص بإعلانات البيع والشراء عبر الإنترنت في الجزائر هو الأكثر زيارة.
ويعتبر موقع “واد كنيس” أول موقع للتسوق الإلكتروني في الجزائر وقد أسسه أربعة شباب جزائريين عام 2006، بعدما قامت السلطات بغلق أحد الأسواق الشعبية الشهيرة في شارع يسمى واد كنيس، بالجزائر العاصمة. وما تزال المعاملات المالية عبر الموقع تعتمد الأسلوب التقليدي في ظل غياب ثقافة الدفع الإلكتروني.. ليبقى التساؤل عن قدرة السلطة على نقل البلاد إلى تعامل الكتروني ينهي الفساد والرشوة والتهرب الضريبي بصورة كبيرة ويمتص قدرًا كبيرًا من أموال متداولة في الأسواق الموازية.