الخاسرون في الشرق الأوسط الجديد

صندوق المرصد
في المشهد المتغيّر للشرق الأوسط، تتبدل موازين القوة والنفوذ بوتيرة أسرع مما يُدركه كثيرون. لم تعد القوة تقاس بعدد الجيوش، ولا المكانة تُقاس بثقل التاريخ وحده. فوفق ما أشار إليه تقرير حديث لمجلة الإيكونوميست البريطانية، فإن منطقة الشرق الأوسط دخلت طورًا جديدًا، خرجت منه بعض الدول بخسارات صامتة لكنها عميقة.
مصر، التي كانت تُوصف لعقود بأنها “قلب العروبة النابض”، تبدو اليوم غائبة عن معادلات التأثير الحقيقي في ملفات المنطقة. أزمتها الاقتصادية، وارتباك أولوياتها، أفقداها الدور الريادي الذي كانت تلعبه سابقاً في القضية الفلسطينية، وفي قيادة الصف العربي.
لم تعد القاهرة منصة للوساطة، بل باتت تكتفي بالتعليق على ما يجري من بعيد، فيما كان لها يومًا الكلمة الفصل.
أما العراق، فبرغم ثرواته النفطية وموقعه الاستراتيجي، إلا أن انقساماته الطائفية وتعدد ولاءاته الخارجية جعلاه أقرب إلى “منطقة نفوذ” من أن يكون فاعلًا مستقلاً. بغداد، التي كانت تشكّل نقطة توازن بين المشرق والخليج، لم تعد قادرة على صياغة موقف عربي جامع، بل بالكاد تستطيع لملمة تناقضاتها الداخلية.
الفلسطينيون أيضاً من بين أبرز الخاسرين. لقد تغيّر المزاج العربي، ولم تعد القضية الفلسطينية تُشكّل بوصلته كما في السابق. لا يعني ذلك أن الشعوب تخلّت عن وجدانها، بل أن الأنظمة أعادت ترتيب أولوياتها وفق منطق المصالح، لا المبادئ.
ووسط انقسام داخلي فلسطيني، وعجز القيادات عن تقديم أفق سياسي موحّد، خسر الفلسطينيون دورهم كقضية جامعة، وتحولوا تدريجيًا إلى ملف إغاثي أو إنساني.
في مقابل هذا التراجع، يبرز صعود دول الخليج كلاعب حاسم في صياغة الشرق الأوسط الجديد. ليس المال وحده ما غيّر المعادلة، بل أيضاً الرؤية الاقتصادية والسياسية التي تبنّتها هذه الدول. السعودية، الإمارات، وقطر على وجه الخصوص، باتت تملك أدوات التأثير عبر الاستثمار، الإعلام، والدبلوماسية الناعمة. لقد تحوّلت من هامش اللعبة إلى مركزها، ومن مجرد “مموّل” إلى “مُقرّر”.
هذا التحول لا يخلو من دلالات: من لم يواكب التغيرات، خسر، حتى لو كان تاريخه ناصعًا. ومن قرأ لحظة التحوّل واستثمر فيها، صعد، حتى لو لم يكن يمتلك إرثًا ثقيلاً من القوة.
الشرق الأوسط الجديد لا يشبه خرائط الأمس. ومن يصرّ على اللعب بأوراق قديمة، سيتفاجأ بأنه خرج من اللعبة دون أن يُعلن ذلك أحد. الخسارة هنا ليست فقط سياسية، بل رمزية أيضًا، وهي غالبًا تبدأ بالصمت… وتنتهي بالنسيان.