الديمقراطية الإسرائيلية بين الداخل وظلال الاحتلال

صندوق المرصد
تتجه أنظار العالم إلى الداخل الإسرائيلي، حيث مشاهد الاحتجاجات الصاخبة، والأزمات السياسية المتلاحقة، والانقسامات المتعمقة حول مستقبل ما يُسمى بـ”الديمقراطية الإسرائيلية”.
لكن، وفي خضم هذا الضجيج الداخلي، تغيب عن المشهد العام حقيقة أكثر إرباكًا، وأكثر تهديدًا: الاحتلال الإسرائيلي المستمر، تحديدًا في قطاع غزة والضفة الغربية، والذي يشكّل تهديدًا وجوديًا للهوية الديمقراطية واليهودية لإسرائيل، كما أشار مقال موسّع نشرته مؤخرًا صحيفة لوموند الفرنسية، عندما قالت:
“في وقت ينصب فيه قلق الرأي العام على مستقبل الديمقراطية الإسرائيلية داخليًا، فإن ارتكاب أفعال غير قانونية وغير أخلاقية ضد الفلسطينيين في غزة يشكّل تهديدًا لا يقل خطورة على الهوية الديمقراطية واليهودية لإسرائيل”.
المفارقة هنا صارخة، بل فاضحة لمن يريد أن يرى الصورة كاملة، كيف يمكن لدولة تُقدّم نفسها للعالم كواحة ديمقراطية في منطقة مضطربة، أن تواصل في الوقت ذاته سياسات القمع والاحتلال والحصار والتجويع ضد شعب آخر؟ كيف يمكن لفكرة الديمقراطية أن تتعايش مع ممارسات تُصنّف، وفق تقارير أممية ومنظمات حقوقية، كجرائم حرب وانتهاكات جسيمة للقانون الدولي؟
الحقيقة، التي تتجنب كثير من النخب الإسرائيلية مواجهتها، هي أن الاحتلال ليس مجرد سياسة خارجية، بل هو سرطان سياسي وأخلاقي يتسلل إلى الداخل، يُعيد تشكيل بنية المجتمع، ويقوّض تدريجيًا ما تبقى من مؤسسات ديمقراطية.
حين يشتعل الجدل الداخلي في إسرائيل حول استقلالية المحكمة العليا، أو الصراع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، يبدو للبعض أن الأزمة محصورة ضمن حدود الدولة، لكن ما تغفله هذه النظرة الضيقة أن الاحتلال المستمر يُعيد تعريف مفهوم السيادة والقانون نفسه.
ـ كيف يمكن لمجتمع يحتل شعبًا آخر، ويخضعه لسيطرة عسكرية، أن يبقى وفيًا لمبادئ المساواة وحقوق الإنسان داخل حدوده؟
فرنسا التي تغنّت بديمقراطيتها قوضها احتلال الجزائر، وانتهى بها المطاف في أزمات سياسية وعسكرية وأخلاقية حادة.
جنوب أفريقيا، رغم مؤسساتها السياسية، ظلت لعقود أسيرة نظام الفصل العنصري، الذي عرّى زيف الديمقراطية الداخلية أمام العالم.
الحديث عن “الهوية الديمقراطية واليهودية لإسرائيل” يكشف تناقضًا بنيويًا عميقًا، فمنذ تأسيسها، سعت إسرائيل للجمع بين تعريف قومي ديني (دولة يهودية) وبين نموذج ديمقراطي غربي، لكن الواقع السكاني والجغرافي، خاصة مع وجود ملايين الفلسطينيين تحت الاحتلال أو التمييز، جعل من هذا الجمع معادلة شبه مستحيلة.
في غزة، حيث يعيش أكثر من مليوني فلسطيني تحت حصار خانق منذ ما يزيد عن 15 عامًا، وفي الضفة الغربية، حيث تتوسع المستوطنات ويستمر التمييز، يتآكل جوهر الادعاء الإسرائيلي بالديمقراطية.. الاحتلال لا يبقى محصورًا خلف الجدران، بل يعبرها، يتسلل إلى الداخل، يُغذي الخطاب المتطرف، يُضعف القضاء، ويحوّل الديمقراطية إلى مجرد قشرة هشة.
غزة ليست مجرد “ملف أمني”، كما تُحب بعض الأوساط الإسرائيلية تسميتها، بل هي مرآة مكشوفة تكشف التناقض الأخلاقي العميق.
ما يحدث في غزة من انتهاكات، ومن قصف وتجويع وحصار، ليس معزولًا عن مستقبل إسرائيل نفسها، فمن يمارس القمع في الخارج، عاجلًا أم آجلًا، سينقلب على القيم في الداخل، هذه ليست نبوءة، بل قانون تاريخي أثبتته تجارب الشعوب.
حين ينشغل الرأي العام الإسرائيلي بالصراعات الداخلية، ينسى أو يتناسى أن الاحتلال هو الخطر الأكبر، ليس فقط على الفلسطينيين، بل على مشروع الدولة نفسها.
لا يمكن لديمقراطية أن تزدهر في الداخل بينما تُدار آلة قمع في الخارج، ولا يمكن لهوية وطنية أن تظل متماسكة بينما تُبنى على أرضية من الإنكار والتوسع والإقصاء.
الإسرائيليون، إذا أرادوا بالفعل إنقاذ ما تبقى من ديمقراطيتهم، عليهم أولًا مواجهة الاحتلال، لا التهرب منه، والنظر بصدق في مرآة غزة والضفة، لا تحطيمها.