المثقف حين يسقط… يسقط مرتين

نبيل الملحم
يسقط المثقف، نعم، ويغدو منحطّاً، أما سقوطه فلا يفضحه خطأ في تأويل نص، ولا عجزه عن تفسير حدث.. يسقط لحظة يبدأ بتفتيش زمرة دم القتيل، ليلبس القاتل ثوب الضحية، قبل أن يسأل القاتل:
ـ من أين جئت؟ ولماذا قتلت؟
يسقط حين يمنح المجزرة اسمًا آخر، فيسميها “التطهير”، كأن الدم يحتاج إلى تزيين لغوي، أو كأن الكلمات قادرة على محو صرخة الضحايا.
ـ لِمِ لا؟
ـ أليس ذاك الذي استبدل اسم “المجزرة ” أو “جريمة الحرب” باسم “التطهير العرقي”؟
من اخترع مصطلح “التطهير العرقي” بدل “المجزرة” لم يكن يبحث عن الحقيقة، بل عن مخرج لغوي يبرر الجريمة، وهذا من ابتكار “مثقف”، كان ذلك أوائل التسعينيات خلال حروب البلقان، حين استخدمه القوميون الصرب لوصف قتل وإبادة الكروات في محاولة لتقديم الجريمة بلغة تقنية توحي وكأنها عملية منظمة أو إجراء أمني، لا إبادة جماعية.
ـ هذا المصطلح، كان من ابتكار “المثقف”، وقد استبدل “سوط الجلّاد”، بـ “صوت اللغة”.
يحدث اليوم في سوريا، ليستبدل “المثقف” مصطلح “التطهير” بمصطلح “التنظيف”، وهكذا كان عليه أن يُصفّق لمجازر الساحل بوصفها “تنظيف”، وكذا كمجازر السويداء، وسيكون هذا حاله ما بعد المجازر التي ستتنقل في سوريا، والتي لابد وتستبدل اسم البلد من “سوريا”، إلى “مجزرة”، حتى يُكتب على مواطنها اسم:
ـ مواطن المجزرة.
وسيتبنى “المثقف” المصطلح:
ـ تنظيف الساحل، تنظيف الجبل، ومن بعدها “تنظيف سوريا من الشرف”، فيما الوساخة تطال رأسه، ولابد تنتقل يوماً إلى حفيده، وهو يختبئ وراء الكلمات المحايدة، التي أنتجتها المخيلة العبقرية لجدّه المثقف.
بعد مجزرتي الساحل ومجازر السويداء، لم يعد الأمر لعبًا بالألفاظ، بل انكشافًا مروعًا:
ـ مثقف يسكت، أو يبرر، أو يحتمي خلف طائفته، كأن الدم إذا كان من خارج القبيلة لا يحرّك ضميره.
أي سقوط أعمق من أن ترى “يوتيوبر” يسخر من دم الضحايا؟ أو رسامًا وسخاً يحوّل الاغتصاب إلى نكتة تُضحك جمهوره الوسخ؟ هذه ليست مجرد انحرافات فردية، بل إشارات على موت الحس الإنساني حين يصبح الألم سلعة للترفيه، وحين يتحول العار إلى نكتة.
لكن السقوط الأخطر ليس في هؤلاء، بل في الصمت الذي يسبقهم.. الصمت الصادر عن من يُفترض أنهم حراس المعنى، عن مثقف كان يُنتظر منه أن يصرخ في وجه القاتل، فإذا به يدفن صوته في مقبرة الولاءات الضيقة، ويقف على حافة المشهد متأملًا الحريق، كأن المشهد لا يعنيه.
لقد كان فرانز فانون، الطبيب والمفكر القادم من المارتينيك، قادرًا على أن يدير ظهره للجزائر، مكتفيًا بعيادته وكتبه، لكنه اختار أن ينحاز للثائر لا للمستعمر، وأن يكتب، لكنه قالها:
ـ إذا صمتُّ أمام الظلم، فساكون شريكاً به”.
لم يتعامل مع الضحية كخبر صحفي، بل كجرح في جسده، والمفارقة أن مثقفاً عربياً يراقب “المجزرة”، كما لو أنها نشرة طقس بعد نشرة أخبار مملة.
ـ إذا صمتُّ عن الظلم فقد خانتني قصائدي.
لم ينفرد فرانز فانون بالصرخة تلك، كانت تلك صرخة بابلو نيرودا ايضأ، وهو الذي لم يُطلق صرخته إلاّ بلون دم الضحية وبلهجة الضحية أيضاً، ذلك أن دم القتيل من دمه، ولهجة القتيل ستغدو لغته ولهجته.
ثمة خيبة أمل اليوم ليست في القاتل ( فالقاتل يمارس وظيفته ) بل في من كان عليه أن يقف بين الضحية والرصاصة، فإذا به يبرر الرصاصة، أو يشيح بوجهه عنها.
لا نطلب من المثقف أن يكون بطلًا أسطوريًا، بل أن يكون إنسانًا، وأن يمتلك الشجاعة البسيطة لتسمية الأشياء بأسمائها، أن يقول:
ـ “هذه مجزرة” لا “تنظيف”، وأن يرى الإنسان قبل الهوية، وأن يقف مع الدم البريء ولو كان غريبًا عن طائفته أو بعيدًا عن جغرافياه.
حين يسقط المثقف في امتحان الدم، يسقط مرتين:
ـ مرة حين يصمت، ومرة حين يشارك في تزوير الحقيقة، أو تجميلها باللغة.