أخر الأخبار

الهند وباكستان: حرب لا تعرف الذاكرة القصيرة

نبيل الملحم

في مشهدٍ يعيد تدوير التاريخ، اندلعت مجددًا شرارة التوتر بين الهند وباكستان، لتُعيد إلى الأذهان نزاعاتٍ دامية ظنّ البعض أنها أصبحت من الماضي. وبينما تتبادل العاصمتان البيانات المتوترة والقذائف الحدودية، يبقى السؤال الأهم:

ـ ما دوافع هذه الحرب؟ وإلى أين تمضي؟

رغم أن الحرب في الظاهر تبدو مفاجئة، إلا أن سياقها يتخمّر منذ سنوات,. التوتر المتصاعد في إقليم كشمير، ذلك الجرح المفتوح منذ تقسيم شبه القارة عام 1947، ظلّ دائم الاشتعال، يتغذّى على قوميات متناحرة، وأطماع استراتيجية، وذاكرة دينية ملتهبة.. الهند، بديمقراطيتها الأكبر، وباكستان، بذات النزعة الإسلامية العميقة، لا تتواجهان فقط كدول، بل كصورتين متناقضتين لمشروع دولة ما بعد الاستعمار.

الحدث المباشر قد يكون اشتباكًا حدوديًا، أو عملية عسكرية نسبت إلى جماعة “إرهابية” تنشط في كشمير، أو حتى مجرد استعراض عسكري أسيء تأويله. لكن ما تحت السطح أعمق بكثير: سباق تسلّح نووي لا يُبشّر بخير، واقتصادات منهكة تبحث عن عدو خارجي لتوحيد الداخل المأزوم، وقيادات سياسية لا تمانع في “حرب قصيرة” لصناعة شعبية عاجلة.

الغريب أن العالم لا يبدو مكترثًا كفاية. ربما لأن هذه الحرب تجري في “الجنوب”، وربما لأن سيناريوهات “الردع النووي” ما زالت تفترض أن الطرفين عقلانيان بما يكفي لتجنّب الكارثة. لكن التاريخ يخبرنا أن الحروب لا تبدأ دائمًا بقرارات عقلانية، بل أحيانًا بهستيريا وطنية، أو بغارة جوية صغيرة تمهّد لحريق كبير.

أما مآلات هذه الحرب، فمرهونة بقدرة المجتمع الدولي على كبح جماح الطرفين، وبمدى وعي الجيل الجديد في كلا البلدين بأن الصراع ليس قدرًا، بل خيارًا. فالهند التي تحلم بالهيمنة الإقليمية، وباكستان التي تكابد أزماتها الداخلية، كلاهما لا يملك رفاهية حرب طويلة.

قد يتوقف إطلاق النار بعد أيام، لكن النزيف سيستمر، في كشمير، وفي ذاكرة الجنود الذين لم يسألهم أحد إن كانوا يريدون القتال.

إن ما يجري بين الهند وباكستان اليوم لا يمكن فصله عن التحولات الكبرى في النظام الدولي. فالصعود القومي في الهند، مقرونًا بتراجع التعددية السياسية، يعيد تشكيل وجه الدولة الهندية بعيدًا عن إرث غاندي ونهرو، ويقرّبها أكثر من سرديات الهيمنة الهندوسية. في المقابل، تواجه باكستان تفككًا داخليًا بين دولة عميقة تتحكم بها المؤسسة العسكرية، وشعب ممزق بين الحداثة والولاءات القبلية والدينية.

هذا الصدام، إذن، ليس فقط حول الأرض، بل حول معنى الدولة في جنوب آسيا. إنه صراع بين مشروعين لهوية وطنية متنافرة، يسكن كليهما خوف وجودي من الآخر. ومع هذا، لا تبدو الحرب قادرة على الحسم، ولا السلام قادرًا على الترسخ.

في زمن التحوّلات الجيوسياسية الكبرى، تظل الحرب بين الهند وباكستان مرآة لعجز العالم عن إنتاج سلام يتجاوز منطق التوازنات الخشنة. وربما، حين يُكتب تاريخ هذه اللحظة، لن يُسأل القادة:
ـ لماذا خضتم الحرب؟
بل:
ـ لماذا عجزتم عن تخيّل مستقبل من دونها؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى