بعد الاحتلال الثاني.. ما الذي تبقّى من دمشق للدمشقيين؟
في المرحلة الاولى من حكم حافظ الأسد، اشتغل الرجل وببراعة على تفكيك العاصمة دمشق، أما التفكيك فجاء على شكل تطويق العاصمة بالعشوائيات، وقد أحاطت بالغوطة بعد تدمير الغوطة، وكانت الغوطة مملكة المشمش والجوز والخضار، كما كان بردى من أعذب الأنهار.
تطويق العاصمة على هذا النحو، ترافق مع إفقار الريف، وتحويل مجموعات ريفية كبرى (ربما تكون اكثريتها من الساحل السوري)، تحويلها إلى البيرقراط الحكومي العسكري منه والمدني، وهو بيرقراط يأكل من خبز السلطان وبالنتيجة يضرب بسيفه، ولم تكن تلك السياسة خالية من النظر الى البعيد البعيد، فدمشق، مدينة البورجوازية المدينية التي تعني انتاج الأفكار ومنظومات القيم، كما تعني الانتاج البضاعي، وبالنتيجة هي (المدينة) التي لابد من تدميرها عبر تطويقها بالعشوائيات وقد امتدت من غربها إلى شمالها وجنوبها وشرقها، لتراكم من السكان مايكفي لانتاج “الكراهية”، مرفقة بـ “فوضى المكان” التي تعني فوضى كل شيء:
ـ الكراهية هنا، لاتعني أن الوافدين الى العاصمة بشر كارهين، غير أن للمكان شرطه، ومن شروط المكان تلك المقولة التي لاتنسى وقد جاءت على لسان نيكيتا خروتشوف:”نهدس الأبنية ثم تهندسنا”.
وما هو المكان الذي صاغته سياسة حافظ االأسد وقد طوّق العاصمة بالعشوائيات؟
إنه المكان المحروم من الضوء، ومن الرصيف، ومن الحديقة، ومن الملعب، ومن كل أسباب الحياة التي يمنحها الريف بفضاءاته الواسعة وانتمائه للطبيعة الأم.
بالنتيجة نقل الريف الى السجن لا إلى المدينة، ومن ثم استثمر بهذا الانتقال استثمارًا سياسياً بحيث صاغ مستوطنات موالية، يتعيش معظم سكانها إما من الوظيفة الحكومية، او من الأعمال الهامشية التي لاتنتمي الى قوى الانتاج، فكان ذلك بداية تكوين جيشه الاحتياطي الذي أجهض العاصمة، وانتزع منها حقيقة كونها رافعة لتطوير البلاد باتجاه المدنية بما تحمل من قيم ومنظومات أفكار.
في الخطوة اللاحقة، وعبر توريثه للسطلة، انتقل ابنه ووريثه بشار الأسد إلى المرحلة الأخيرة من اجتثاث العاصمة وتفكيكها، فكانت استقدام المستوطنين الايرانيين الى العاصمة دمشق، حتى بات الدمشقيون، ومن بوابات محالهم في البزورية وسوق الحميدية وساحة الجامع الأموي، كما في باب توما (الحي المسيحي) يستصبحون بالحافلات الايرانية الآتية من لبنان والعراق وإيران وهي تملأ الشوارع والأحياء وينتشرون في كل أسواق دمشق خلال فترة عاشوراء وأربعين الحسين براياتهم التي كانت تجلل معظم شوارع العاصمة محميون بالميليشيات.
الأسواق تحولت الى أسواق ايرانية.. بضائعها ايرانية والباعة ايرانيون، فتحولت دمشق إلى سوق للمنتجات الإيرانية؛ والأكثر من ذلك كان ما أعقب تدمير محيط دمشق، فالمدن المدمرة باتت كذلك سوقًا عقارية للايرانيين، بعد أن سيطرت (وحسب تقرير للشرق الأوسط) على سوق العقارات عبر شبكات من المؤسسات وتجار العقارات وبنوك إيرانية مرتبطة بـ(الحرس الثوري)، وقدمت تسهيلات ومنحت قروض كبيرة للراغبين في شراء العقارات في سوريا، فتملك إيرانيون ومقاولون ورجال أعمال وعناصر الميليشيات آلاف المنازل والعقارات في أكثر المناطق حيوية؛ سواء في دمشق القديمة؛ أحياء العمارة والجورة وحي باب توما المسيحي. وفي الوسط التجاري حيث استملكت السفارة الإيرانية، فنادق: (كالدة)، و(الإيوان)، و(آسيا)، و(دمشق الدولي)، و(فينيسيا)، و(البتراء)، وأسهم في فندق «سميراميس)، ومساحات واسعة خلف مشفى (الرازي) لإنشاء أبراج سكنية، وذلك إضافة إلى تملك أراض وعقارات في ريف دمشق، وذلك بالتزامن مع فورة في حركة البناء والإعمار شهدتها مناطق عدة بريف دمشق مثل صحنايا، وجديدة عرطوز، والسيدة زينب.
الدمشقيون يتساءلون اليوم:
ـ ما الذي تبقّى لنا من دمشق؟
تبقى لهم الفرجة على جحافل اللطم الايراني وهي تخترق أسواق العاصمة بتظاهرات استفزازية تمس صلب المدنية، مواكب من المشاة؛ رجالاً ونساءً، شباباً وأطفالاً، يلبسون الأسود وهم يسيرون على طريق المطار جنوب العاصمة، رافعين الرايات، فيما بدا استعراضاً لوجود أكثر منه مناسبة دينية.
هذا العام، تزامن الاحتفاء بـ«أربعينية الحسين» وظهور الموكب الديني على طريق المطار بدمشق مع تأكيد الرئيس السوري بشار الأسد على أن الوجود الإيراني في سوريا «يقتصر على خبراء عسكريين يعملون مع قوات النظام على الأرض»، نافياً وجود أي قوات إيرانية داخل الأراضي السورية. وعدّ مراقبون في دمشق ذلك تناغماً مع النفي الإيراني المستمر لوجود قوات عسكرية إيرانية رسمية في سوريا.
تقارير اقتصادية جدية تقول غير ذلك، لقد أنفقت إيران في سوريا ما معدله 6 مليارات دولار سنوياً على مدى 8 سنوات من الحرب؛ ما يعادل مجموعه 48 مليار دولار، أي 4 أضعاف ميزانية الدفاع الإيرانية السنوية.
ـ هل كان ذلك صدقة ايرانية وقد منحت للسوريين؟
إنه الاحتلال الثاني.
الأول كان العشوائيات والثاني كان الايرانيون.