بلاد الشام: أنطون سعادة أم شمعون بيريز؟

ـ مصير القدس أن تمتد إلى دمشق.
نبيل الملحم
منذ أكثر من قرن، لم تغب بلاد الشام عن خرائط الطموحات، سواءً كانت تحررية أو استعمارية، قومية أو تكنولوجية، واليوم، تعود هذه البلاد إلى واجهة النقاش الدولي، لا من باب تاريخها أو آلامها أو مجازرها، بل من بوابة ما يُشاع عن “إعادة ترسيم خريطة الشرق الأوسط”، وهو طرح لم يعد مقتصرًا على التحليل السياسي الهامشي، بل يتردد على ألسنة مصادر أمريكية وإسرائيلية رسميّة أو شبه رسمية، في سياق الحديث عن شرق أوسط جديد، “مُطوّر”، أو بالأحرى “مُعاد تصميمه”.
وكنا سمعنا من أركان الحكم في إسرائيل مثل هذا الكلام بصيغة صريحة، بل فاقعة، ففي عام 2023، وخلال ظهوره العلني في باريس، وقف وزير المالية الإسرائيلي بوزي سموتريتش أمام خريطة تحمل ما يُعرف بـ”إسرائيل الكبرى”، تشمل الأردن وسوريا وجنوب لبنان وأراضي من الضفة وغزة، وقال بوضوح:
ـ مصير القدس أن تمتد إلى دمشق.
لم تكن هذه زلّة لسان، بل تعبيراً سياسيًا صريحًا لما يُضمره التيار القومي الديني الإسرائيلي، والذي بات شريكاً حاكمًا في تل أبيب، وفاعلًا مباشرًا في تشكيل جغرافيا المنطقة وفق تصوّر أيديولوجي قديم – جديد.
لكن حين نُسائل الواقع ومعطياته لا الأحلام، تبرز الحقيقة:
ـ إن مشروع بيريز ـ لا مشروع سعادة ـ هو الأقرب اليوم للانتصار، لا لأنه أكثر شرعية، بل لأنه مدعوم بمعادلات القوة.
لكن إن صحّ هذا الطرح، فالسؤال الذي ينبغي أن يطرحه كل سوري شاميّ مهما كان موقعه الفكري أو الجغرافي:
ـ أي بلاد شام تُراد لنا؟
هل هي بلاد أنطون سعادة، المفكر القومي الذي أرادها وحدة حيّة تحررية؟ أم بلاد شمعون بيريز، المهندس السياسي لـ”الشرق الأوسط الجديد” المبني على السلام الاقتصادي والتطبيع الأمني، وتفكيك الروابط القومية لصالح أسواق مشتركة تخدم إسرائيل أولًا؟
أنطون سعادة، حين نادى بسوريا الكبرى، لم يكن ينسج أوهامًا رومانسية، بل كان يحاول إعادة صياغة مفهوم الوطن بعد أن مزقته معاهدة سايكس بيكو، ونثرت حدوده بين قوى الانتداب.. بلاد الشام عند سعادة، كانت مشروعًا للنهضة، للعدالة الاجتماعية، للتحرر من الطائفية ومن الهيمنة الغربية.
مشروع وطني جامع يقوم على وحدة الجغرافيا، والتاريخ، والمصير.. مشروع يستمد معناه من الجغرافيا، لامن رسومات الخرائط التي يشتغل عليها رسامون، يفضّلون الممحاة على أقلام الرصاص.
أما شمعون بيريز، فرأى في بلاد الشام ـ وفي المنطقة بأسرها ـ سوقًا مفتوحة أمام التفوق الإسرائيلي، وقابليةً للترويض.
الشرق الأوسط في نظر بيريز ليس كيانًا مستقلًا بل هامشًا في دفتر الحسابات الإسرائيلية: مشاريع مياه عابرة للحدود، واتفاقات أمنية تحت سقف القوة، وتطبيع يخلع عن الفلسطينيين حقوقهم ويزرع في عمق الشام كيانات وظيفية.
ولعلّ المفارقة اليوم، أن فكرة “الوحدة الشامية” عادت إلى التداول لا من رحم إرادة شعوبها، بل من دهاليز مراكز صنع القرار في واشنطن وتل أبيب، حتى هذا الحلم، صار يُعاد إنتاجه على مقاسات الهيمنة، وبهذا، تتحول “بلاد الشام” من مشروع تحرري إلى مشروع وظيفي، يُعاد دمجه لا لمصلحة أهله بل ليتناسب مع خرائط الغاز وخطوط التطبيع ومراكز السيطرة التكنولوجية.
هنا تكمن الحكاية، والحكاية أن نستفيق يومًا على بلاد شام جديدة، تُرفع فيها أعلام المواءمة لا المقاومة، وتُبنى فيها المدن الذكية تحت إشراف الاحتلال، وتُعاد صياغة مناهجها لتنسى من هي، ومن كان فيها.
ـ شام بلا قدس، بلا غزة، بلا بغداد، وبلا بيروت، فالكل أزقة جانبية لإسرائيل.
لكن، يبقى السؤال مفتوحًا لا بيد الجغرافيا وحدها، بل بيد الإرادة فحتى لو فُرضت على ناس هذه الجغرافية وحدة ما، فلهم أن يقرروا محتواها،
هل تكون بلاد الشام على نهج أنطون سعادة، ساحة لصياغة مشروع نهضوي جامع؟ أم تكون نسخة مشوّهة من حلم بيريز، ناعمة الملمس لكنها منزوعة الروح؟
ـ الأوطان لا تُقاس بالخرائط، بل بما يُكتب في قلبها.
لكن حين نُسائل الواقع ومعطياته لا الأحلام، تبرز الحقيقة:
ـ إن مشروع بيريز ـ لا مشروع سعادة ـ هو الأقرب اليوم للانتصار، لا لأنه أكثر شرعية، بل لأنه مدعوم بمعادلات القوة، وبتحالفاته مع أنظمة محكومة بهاجس البقاء لا بهاجس السيادة، ولو لم يكن الامر كذلك لما تناوب على الشام الأسد وابنه ومن ثم “دولة طالبان”، حيث هشّمها الأول، ليهمشها الثاني، وكليهما يناما في سرير إسرائيل.
أما مشروع سعادة، الذي حلم بوطن لا طائفي، مقاوم، متحرر من الخارج، فلا يملك اليوم سوى أنفاس مثقفين، وأطلال تنظيمات، وحنين شعوب محبطة.. لقد انهارت بنى الدولة في قلب الشام، وتشظّت الهويات، ولم تعد “النهضة” حلمًا مشتركًا بقدر ما أصبحت ذكرى باهتة.
ومع ذلك، لا يعني هذا إعلان هزيمة التاريخ. فكم من مشاريع منتصرة في ظاهرها، كانت بدايتها نذير سقوطها.
إنّ الصراع بين مشروع سعادة وبيريز، هو صراع بين المعنى والقوة، بين الذاكرة والتكنولوجيا، بين وطن يُبنى من الداخل وآخر يُركّب من الخارج
والمفارقة أن النصر المؤقت قد يكون بذرة الهزيمة الأعمق.
فلنُعد طرح السؤال لا على شكل مقارنة، بل على شكل خيار:
هل نريد بلاد شام حية، تعبّر عن ذاتها؟ أم بلاد شام مُصنّعة، تعيش على الإعالة؟
اليوم بتنا نعرف تلك الدوافع المخفية التي دفعت للتخلص من ظاهرة الارثوذكسي أنطون سعادة، بتلك الطريقة التراجيدية، وبتواطؤ متعدد الأطراف.
اليوم صار علينا أن نعود لتلك الخرائط التي وضعت للمنطقة منذ ظهور المسألة الشرقية في بدايات القرن التاسع عشر.
ونعود إلى السؤال:
ـ أي بلاد شام؟
بلاد شام شيمون بيريز أم بلاد شام أنطون سعادة؟
ـ ربما لا نملك الإجابة اليوم، لكننا حتمًا مسؤولون عنها غدًا.