fbpx
أخر الأخبار

“بونابرت” الصقر، بونابرتيون ضباع

“أحب عبقريته، وأكره استبداده”، يأتي هذا الكلام على لسان الفرنسي فرانسوا رينيه دي شاتوبريان، والمستهدف نابليون بونابرت، الامبراطور الفرنسي المدفون قبل قرنين من الزمان، وقد حلت ذكرى وفاته.

نابليون، الامبراطور المثير للجدل فهو ” أحيانًا “الصقر” ذو الإستراتيجية اللامعة، وأحيانا أخرى المحارب “الغول” كاره النساء ومعيد العبودية لسابق عهدها”.

الفرنسيون وفي الذكرى الثانية لوفاة بونابرت يعودون للجدل حول شخصية الرجل، ومن بين المتجادلين، المؤرخ شارل إيلوا فيال، مؤلف العديد من الكتب حول بونابرت ومنها “نابليون – اليقين والطموح” ، وهاهو المؤرخ يسرد جزءًا من المعروف عن سيرة بونابرت، ومن المعروف أن بونابرت “رقي لرتبة جنرال وهو في الرابعة والعشرين من عمره، ثم قائدا عاما للجيش داخل فرنسا وهو في السادسة والعشرين”.

حقًا  لقد كان صعوده سريعا ومذهل، وقد أعقب هذا الصعود وقائع الثامن عشر من برومير التي خصها ماركس بكتاب من أهم كتبه ويحمل هذا العنوان، وعبر الثامن عشر من برومير حاز بونابرت السلطة بالاستيلاء على منصب القنصل الأول قبل أن يستحوذ عليها تماما بإعلانه نفسه قنصلا “مدى الحياة”، ثم قام بتتويج نفسه إمبراطورا للفرنسيين في الثاني من ديسمبر/كانون الأول 1804. وقمع فرنسا بعد ذلك وأسس دولة بوليسية.

هنا كان السؤال:

ـ هل تفضل أن تسميه صاحب رؤية أم طاغية؟

في حوار مع فرانس 24 وجه السؤال لـ “شارل إيلوا فيال” وكانت اجابته:”ربما يكون مصطلح طاغية مبالغا فيه بعض الشيء، الأمر ذاته مع مصطلح ذو بصيرة: ففي التاريخ، يجب على المرء أن يعرف كيف يتبنى وجهات نظر متباينة، ويعترف بأن نابليون لم يكن أسود أو أبيض، كما أن حكومته كان لها جوانب جيدة جدًا، خاصة فيما يتعلق بالإدارة. لكنه فضل قيادة فرنسا بطريقة استبدادية للغاية، وأعلى من شأن المساواة لكن على حساب الحرية وهو الأمر الذي قد يصدمنا حتما. فهو كان مجرد رجل بكل سيئاته وحسناته أكثر من كونه طاغية أو صاحب رؤية.

هل يمكننا مع ذلك أن نؤكد أن طموحه كان غير متناسب؟”.

كان الحوار قد رسم بعضًا من سيرة بونابرت التي لابد وتغري الكثير من القراء، فطموح بونابرت صعد به لمرتبة عالية للغاية وسمح له بأن يصبح إمبراطورا في سن الخامسة والثلاثين. ولكن هذا أيضا هو ما دفعه للانطلاق في الحرب ضد روسيا في عام 1812، والعودة مرة أخرى للحرب في عامي 1813 و1814، كما رفض بعناد توقيع معاهدة السلام وحاول العودة لمرة أخيرة في عام 1815، لكن الأمر انتهى بهزيمته في واترلو. طموحه سبب ضياعه. لقد قاد “الإمبراطورية العظيمة” إلى حتفها، لكنه أظهر بعد ذلك مقدرته على تجاوز ذلك في جزيرة القديسة هيلانة البريطانية خلال إرساء أسس أسطورته الشخصية.

في بداية عهده، كان ناجحا في كل شيء وبخاصة في ساحات القتال، كما في معركة أوسترليتز بعد سنة واحدة من تتويجه إمبراطورا. وفي حالة النشوة تلك لم يعرف نابليون كيف يسيطر على نفسه. بعد عودته إلى السلطة عام 1815، لم تعد جيوشه كما كانت عليه من القوة والسطوة فتعرضت لهزيمة قاسية في ووترلو.

هل كان مغرما جدا بالحرب؟

لقد قالها نابليون نفسه بأنه كان يحب الحرب كفنان. عندما يكون في ساحة المعركة يشعر وكأنه في بيته، لأنه كان بإمكانه إظهار مهاراته العسكرية غير العادية، والتي أدركها الجميع بسهولة، بما في ذلك أعدائه. كانت معظم الحروب في ذلك الوقت دفاعية، على الأقل حتى عام 1808 عندما ذهب به طموحه بعيدا. في إسبانيا، وبخاصة في روسيا، أظهر أنه كان يخوض الحرب قبل كل شيء من أجل المجد. فتزداد الرهانات ويزداد عدد القتلى وتصبح المعارك أكثر دموية. وتشير التقديرات إلى أن حوالي مليون جندي فرنسي ماتوا خلال حروب الثورة والإمبراطورية، وهو بالتأكيد عدد كبير، لكنه أقل من الصراعات المعاصرة.

كل ما سبق من سيرته يقول أنه كان محاربًا، ولكن هل ثمة حساسية لهذا الرجل تجاه الألم البشري؟

الآراء بشأن هذا الموضوع منقسمة. يصفه البعض بأنه كائن مفتقد للحساسية، بينما يصفه البعض الآخر بأنه شخص يعطي الكثير من الانتباه للمرضى ومعاناة أقاربه، ويصف هو نفسه العلاج لإخوته أو لزوجته في رسائله إليهم. لكنه ليس لديه نفس الموقف عندما يؤدي دور أمير الحرب. تسبب قراره بالقتل الرحيم للمرضى في يافا، خلال الحملة المصرية، على وجه الخصوص بالكثير من الجدل واللغط. وحتى في الأوقات التي كان يود أن يظهر فيها بأنه عديم الإحساس، كانت تغلبه مشاعر التأثر، كما حدث بعد معركة إيلاو الدموية بشكل خاص، حيث تأثر بمشهد الدم على الثلج.

في مواجهة العبودية، كان موقف نابليون متناقضا: فقد حرر المئات من العبيد في مالطا عام 1798، ثم جند العبيد قسرا في الجيش المصري بعد بضعة أسابيع. ولسنوات، كان أحد أكثر خدامه المخلصين عبدا سابقا، وهو المملوك رستم رضا الشهير بروستان.

يتساءال الفرنسيون اليوم:

ـ بعد مئتي عام على وفاته، ما رأيك في كل هذا الجدل بحقه؟ هل يجب أن نحتفل بهذه الذكرى المئوية الثانية أم لا؟

السؤال سيكون أيضًا مناسبة للمؤرخين لتقديم ثمار أكثر من خمسين عاما من البحث، منذ بداية الاحتفالات بالذكرى المئوية الثانية لميلاد نابليون في عام 1969، حيث تجاوز المؤرخون الرؤية المجمدة بشكل رهيب للإمبراطور، كمثال للعبقرية المحضة وقائد عسكري لا يقهر، إلى نظرة تتسم بكثير من الدقة والموضوعية لتلك الشخصية.

إنه لمن المفارقة العجيبة القول بأن نابليون هو الشخصية الأكثر دراسة في العالم، ومع ذلك لا يزال أمامنا الكثير لاكتشافه. ولهذا فإن الضجة الإعلامية حول الذكرى المئوية الثانية هي فرصة ممتازة لجعل أحدث الأبحاث الجامعية معروفة لأكبر عدد ممكن من الناس، وإذا كان هناك بالفعل جدل، فقد يكون ذلك أيضًا لأن الرؤية التي قد تكون لدى عامة الناس عن نابليون أصبحت تعتمد الآن بصورة أقل على الأسطورة وباتت أكثر تأثرا بالنقد التاريخي.

الذكرى المئوية لبونابرت، تعيد إلى الأذهان، لبونابرتيون الجدد، أولئك البلهاء، الذين لم يخوضوا حروبًا امبراطورية، لم يكونوا محاربين أشداء ولا فلاسفة برؤى.. أولئك الذين لم يأخذوا من البونابرتيه سوى:

ـ ولدوا وقتلوا وماتوا.

أولئك الذين لن يعثر التاريخ على جملة واحدة من حياتهم جديرة بأن تكون في كتاب التاريخ.

هو ذا الفارق ما بين بونابرت الصقر والبونابرتيون الضباع.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى