حكاية الزمن الجميل
مرصد مينا
دائما تسمع مفردات من طراز “الزمن الجميل”، وكلمة من هذا الطراز في بلد مثل سوريا ستعني بالتمام والكمال أننا نعيش في “الزمن القبيح”، أما الجمال فكان في:
مطلع استقلال البلاد ربما وصولاً لتمكّن حافظ الأسد من السلطة وتحوّل الثكنة إلى احتلال السوق فما قبلها كان:
ـ برلماناً يخطو نحو دمقرطة الحياة السياسية فيجمع على مقاعدة البورجوازية السورية الطامحة، والطبقة الوسطى وعقلاء الريف تمثيلاً لفقرائه، ولابد أن الصناعات التحويلة من مثال الصناعات النسيجية والصناعات الغذائية وسواهما كانا في الذروة، فالنسيج السوري عثر على مكانه وصولاً لمقعد الرئيس الأمريكي هاري ترومان وكان من أنوال البروكار السورية.
ـ اقتصاداً متيناً لقطاع الزراعة فيه ما يفيض عن حاجات البلاد حتى وصل قمحه القاسي مرحلة كاد فيها أن يقدر على التصدير إلى “العالم الثالث”، وهذا كلام لليونسكو.
ـ جامعات كان لكلية الحقوق السبق فيها على عداها من جامعات العالم الثالث فكانت ثاني كلية ما بعد كلية الحقوق في جامعة القاهرة.
ـ وحياة ثقافية تعبيرها في صحافتها من “المضحك المبكي” وصولاً للـ “الثقافة الأسبوعية” وما بينها من صحافة صباحية ومسائية، شهرية وأسبوعية، حتى وصل عدد الصحف السورية منتصف الخمسينيات إلى 56 صحيفة تتلقفها النوادي والمقاهي وحتى بارات العاصمة ومناكفات مثقفيها.
أكثر من ذلك كانت الأزياء تأتي من باريس لتضاهيها في دمشق ومن ثم تتجاوزها مع مقصات الخياطين السوريين الذين احتفلوا بالجسد حتى كادوا يقرأونه لا بتضاريسه فحسب، بل باحتياجاته كما ينبغي.
كل ذلك كان، وفي تنافس صريح مع القاهرة ومن ثم بيروت، فكان “زمناً جميلاً” لا بتعبيرات تداعيات الرغبة بل بالحقائق الجدّية التي تتبدّا في العمارة، فأن تتجول في “جميلية” حلب، فلن يكون لك من بعدها أن تخط طريقاً نحو عشوائيات “الزمن القبيح” زمن “عش الورور”، والـ “86” والهندسات العسكرية التي تأخذ روج الزنزانة وإن لم تكن الزنزانة فالثكنة وكليهما مقابر لأحياء هجروا الريف لجوءاً إلى مدينة مستقبِلة قسراً، محاطة بالعشوائيات التي تعكس عشوائيات في كل مجال، دون تعديها على التنظيم الصارم، الفولاذي لـ :
ـ برلمان على مقاعده بشر يهتفون بحياة القائد، وصحافة مستنسخة صحيفة عن صحيفة، ومقاه مثقفين يحتلها المخبرون وتطرد الحيارى، وترييف مدينة ما بعد تصحير أريافها وقد أحيطت المدينة بالسلاح وبالعسكر وبالعشوائيات وقد “عشونت” حياة السكّان حتى فقدت المدينة مدنيتها، وارتد بحرها إلى استيراد السردين ما بعد فناء أسماكه، فكانت “زمناً قبيحاً” لا صوت فيه إلاّ صوت المعركة”، أما عن المعركة فلم تكن سوى مع سكّان البلاد بدءاً من مجازر حماه وصولاً للبراميل المتفجّرة آخر ابتكارات “العقل الصناعي” لعساكر نظام ما أن يستخدم عقله حتى يستند إلى أقدامه في ركل كل عاقل ليطرده من بلاده أو يحيله إلى سجونها، ويكفي التجوّل في بلاد المهاجر للتعرف على المهارات السورية وقد عمّرت بلداناً بعد أن نزحت فراراً من بلادها.
هو “الزمن الجميل” ليس كذبة ولا قصيدة، يقابلة “زمناً قبيحاً” لا هجاء ولا كراهية او ثأراً.
من حق السوري أن يبكي أمسه.