أخر الأخبار

حيث تمطر في لبنان فالخراج لـ “إسرائيل”

نبيل الملحم

ما من قضية إلاّ وتتحول إلى انقسام في لبنان، وقد لاينجو طبق “الفتّوش” من هذا الانقسام، فما من حدث يُقرأ قراءة واحدة، ولا مصطلح سياسي أو وطني إلا وله تأويلان أو أكثر، بحسب الطائفة، والموقع السياسي، والموقف من الخارج، وهكذا فالبلد الذي يشهد على تعاقب الكوارث والاغتيالات والاحتلالات، لا يشهد على تعاقب التوافقات، بل على ديمومة الانقسام.. هذا هو الحال وهذا قدر لبنان.

حين اغتيل رفيق الحريري، بدا لوهلة أن لحظة إجماع وطني وشيكة، لكن سرعان ما ظهرت الفوالق القديمة-الجديدة.. فريق رأى في الاغتيال استهدافًا سوريًا لمشروع السيادة اللبنانية، وفريق آخر نظر إليه كذريعة غربية لضرب “محور المقاومة”.

ومع انطلاق المحكمة الدولية، احتدمت الروايات، فريق اعتبرها ضرورة للعدالة، وآخرون اتهموها بالانتقائية والتسييس.. هكذا، تحوّلت العدالة إلى نقطة نزاع، بدل أن تكون نقطة التقاء.

وكذا الحال في المواقف من سوريا، اليوم وبالأمس، حيث يحتل الموقف من النظام السوري مكانًا مركزيًا في الاصطفاف اللبناني، وكان هذا حاله منذ خروج القوات السورية عام 2005، وقد ترسخ الانقسام بين من رأى في سوريا قوة احتلال سابقة، ومن اعتبرها شريكًا استراتيجيًا في مواجهة إسرائيل.

وفي ما بعد 2011، لم تُجمع المجازر ولا لجوء أكثر من مليون سوري على موقف أخلاقي لبناني موحد.. بقي البعض يرى في النظام السوري درعًا للمقاومة، فيما رآه آخرون نظامًا مجرمًا أعاد إحياء الوصاية بأدوات جديدة.

حتى على إسرائيل ما من موقف جامع، ففي أي بلد في العالم، يُفترض أن يشكّل العدو الخارجي نقطة توحّد، لكن في لبنان، حتى الموقف من إسرائيل موضع خلاف، فحزب الله يرى في نفسه رأس حربة في “محور المقاومة”، بينما يتهمه خصومه باحتكار قرار الحرب، ومراكمة ترسانة خارج سيطرة الدولة، والزجّ بلبنان في حروب غير محسوبة، وحين وقعت حرب يوليو/ تموز، 2006 كانت مثالاً صارخًا بين من اعتبرها ملحمة صمود، ومن رآها مغامرة مدمّرة خرقاء.

أما عن المواقف من حزب الله فالانقسام حول الحزب الله ليس فقط حول “حزب” أو “سلاح”، بل حول موقع لبنان وهويته ووظيفته، هل هو بلد عربي معتدل ذو علاقات متوازنة مع الخليج والغرب، أم قاعدة متقدمة لمحور إقليمي تقوده إيران؟ وهل الجيش هو الضامن للسيادة، أم المقاومة؟ هل الشرعية تُستمد من الدولة، أم من “الشرعية الثورية”؟

أسئلة من هذا النوع تُظهر أن اللبنانيين مختلفون حتى في تعريف مفهوم “الدولة” نفسه.

ليست هذه الانقسامات مجرد “اختلافات سياسية”، بل تعبير عن أزمة هوية وطنية، فالبلد يتكوّن من جماعات، لكل منها روايتها الخاصة، ذاكرتها الخاصة، حلفاؤها، أعداؤها، وطقوسها السياسية.

لا هوية جامعة، ولا سردية وطنية موحّدة، ولا مركز سيادي مرجعي، لذلك، كل حادث يتحوّل إلى ساحة حرب روائية:

ـ من هو الشهيد؟ من هو العدو؟ من يحمي الوطن؟ من يهدده؟ لا أجوبة موحّدة، بل صراع تأويلات مفتوح.

في النهاية، لا يمكن بناء دولة على أساس هذا الكمّ من التناقضات والهويات، فالدولة ليست فقط دكاكين وكازينوهات.

ذاكرة، مشتركة، وخطاب جامع، وأفق سياسي واحد ما لم يعترف اللبنانيون بحقيقة أن بلدهم في حاجة إلى عقد اجتماعي جديد، وإلى لغة تتجاوز القوالب الطائفية والمصالح الخارجية، فإن لبنان سيبقى وطنًا على هيئة انقسام دائم.

وطن على شكل “بوسطة”، ولعنة كبرى إذا لم يتذكر اللبنانيون “بوسطة عين الرمانة” التي فجّرت الحرب الأهلية وقد طالت لسنوات ومقابر وآلام.
قد يصلح لبنان ليكون وطناً.

يحدث هذا إذا ما جاء يوم واحتكموا إلى فتنة “الصبوحة” والرحابنة وفيلمون وهبي ونصري شمس الدين، اما أحزابه “الخردة” فلن تكون يوماً أكثر من مندوبي مبيعات.

مندوبون لفرنسا، آخرون لأمريكا، مندوبون للخليج، مندوبون لطهران، وبالنتيجة مندوبون لإسرائيل، فـ “حيث يمطر المندوبون فالخراج لـ إسرائيل”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى