سوريا: من “جمهورية الخوف” إلى أسئلة “ما بعدها”

زاوية مينا
في مسار متشابك من الانقلابات والصراعات، صعد حافظ الأسد إلى قمة السلطة في سوريا عام 1970، ليس بوصفه منقذاً بل كصانع لجمهورية أمنية مغلقة.
كان الضابط في سلاح الجو، أحد أركان حزب البعث، قد استثمر سلسلة من الانقلابات الداخلية ليقصي خصومه ويصنع نظاماً يتكئ على المخابرات والطائفية والولاء الشخصي.
في لعبة التوازنات الدولية، عرف الأسد الأب كيف يضع قدماً في موسكو وأخرى في واشنطن، فخاض حرب 1973 ضد إسرائيل، وتوغل في لبنان، وشارك لاحقًا في مؤتمر مدريد للسلام. كل ذلك ضمن منطق واحد: أن تبقى سوريا ورقة لا يمكن الاستغناء عنها في أي صفقة إقليمية.
لكن المثير أن هذه الدولة “الجمهورية” حوّلها الأسد إلى نظام وراثي، حين أعاد نجله بشار من دراسته في لندن بعد وفاة الابن الأكبر باسل، وبدأ بإعداده لتسلّم الحكم. وما إن مات حافظ عام 2000، حتى غُيّر الدستور خلال دقائق ليتناسب مع عمر بشار، وتسلّم السلطة في مشهد استفتاء يُشبه المسرحيات الرديئة.
بشار الأسد، الذي وعد بالإصلاح، سرعان ما خنق أي محاولة للتغيير. وعندما اندلعت الثورة السورية عام 2011، واجهها بالنار والحديد، ثم حوّل البلاد إلى ساحة حرب عالمية مصغّرة، تعتمد بقاءه على وجود الروس والإيرانيين وميليشيات عابرة للحدود، لا على شرعية الداخل.
اليوم، تقف سوريا كدولة ممزقة، يحكمها نظام فقد كل صلة بالمجتمع، لكنه يتقن لعبة البقاء عبر استثمار الخراب. من الضابط إلى الوريث، تبدو “الجمهورية” كما لو كانت رهينة في قبو العائلة.
برحيل حافظ الأسد، ثم سقوط وريثه بشار، لن تنهار فقط عائلة حاكمة، بل سينهار معها نظام أمني شُيّد على القمع والطائفية وتحالفات الخارج. سيكون الوطن مكشوفًا، هشًا، يتيماً أمام الفوضى، لكنه أيضًا على عتبة التحوّل.
قد تصعد الكيانات المناطقية، وقد تنفجر صراعات مؤجلة، لكنّ سوريا لن تُمحى. في طيات الركام، ما زال هناك مجتمع يتنفس، ومثقفون ومنفيون وحالمون قادرون على استعادة المعنى. المعركة المقبلة لن تكون على السلطة، بل على شكل الوطن.
التحدي الأكبر ليس في من يحكم، بل في كيف نمنع تكرار الكارثة. سوريا الجديدة لن تُبنى على الانتقام، بل على العدالة، والمصالحة، والذاكرة المفتوحة. وإن كان سقوط الديكتاتور نهاية مرحلة، فهو أيضًا بداية شاقة لكتابة تاريخ لا يكتبه الجلادون.
واليوم، انتهت جمهورية الأب وابنه، غير أن المخاطر ماتزال، هذا إن لم تتسع، والخطر الأعظم لابد وسيحمل عنوان:
ـ التقسيم.
فما الذي يعنيه فيما لو وقع؟
ما كان يُقال همسًا صار يُطرح بوضوح في دوائر القرار ومراكز الأبحاث. لكن، هل يدرك السوريون والعالم ما يعنيه تقسيم هذا البلد؟
سوريا لم تكن يومًا خالصة لطائفة أو قومية. التقسيم يُحوّل النسيج الاجتماعي التاريخي إلى خطوط تماس. مدن مختلطة كحمص، دير الزور، الحسكة، وريف دمشق ستتحول إلى بؤر نزاع دائم لن يهدأ.
لن تملك “الكيانات” الجديدة مقومات الدولة. ستكون محميات أمنية واقتصادية تابعة لقوى خارجية: دويلة لتركيا، دويلة لإيران، أخرى لأميركا، وربما لروسيا. القرار الوطني سيتبخر، وتصبح سوريا مسرحًا دائمًا لحروب الوكالة.
ستظهر أسئلة جديدة من بينها:
من يملك النفط؟ من يتحكم بالماء؟ ماذا عن الفوسفات، أو الموانئ؟ كل هذا سيفتح أبواب نزاعات جديدة على الخريطة، ولن تتوقف الحروب عند “سايكس بيكو جديدة”، بل ستبدأ من هناك.
ملايين السوريين في الشتات لن يجدوا وطنًا يعودون إليه. بيوتهم قد أصبحت في “دولة أخرى”، تخشاهم أو تعتبرهم غرباء. التهجير سيتحول من مأساة مؤقتة إلى واقع دائم.
سننتقل من وطن يحاول النهوض، إلى هويات ضيقة تتقاتل على فتات الجغرافيا، فيما يختفي الوطن الكبير من الذاكرة.
التقسيم ليس حلًا، بل فخًا.. فخ يُغلق الأبواب على المستقبل، ويُبقي السوريين أسرى لحروب لا تنتهي.
إذا كان نظام الأسدين قد قتل الحلم السوري، فإن التقسيم سيدفن جثته ويمنع قيامته.