أخر الأخبار

عنف الهوية وخراب المعنى

نبيل الملحم

ليس من العدل، ولا من الدقة التاريخية، أن تُحمّل المجتمعات العربية ذات الغالبية السنية مسؤولية صعود الحركات العنيفة التي وُصفت بالفاشية، وكأنها ولِدت من رحم ثقافتها أو من أعماق وجدانها الجمعي، مثل هذا التبسيط لا يفسّر الظاهرة بل يُسهم في شيطنتها، وفي نفي الحقّ عن ملايين البشر الذين انكسروا تحت أقدام الحرب والخذلان والتشريد.

ما شهدته البيئات العربية، خلال العقود الأخيرة، لم يكن إنتاجًا ذاتيًا لثقافة متطرفة بقدر ما كان انهيارًا كاملاً لمنظومات الحياة، لمنابع الاستقرار، لآليات النمو الطبيعي للمجتمع. لم تكن الفاشية لحظةً في وعيٍ جمعي ناضج، بل كانت صدى لصوت الخراب حين يصبح وحده من يتكلّم.

في مدن سورية  باتت خرابات، لم تنفجر الفاشية من المساجد أو المدارس أو الأسواق، بل نبتت في الفراغ الذي خلّفه السقوط الكبير. السقوط الذي لم يصنعه أهل هذه المدن، بل فُرض عليهم بنيران السلطة وعنف الاحتلال وتحالف القتلة، حيث تقاطعت مصالح الطغيان المحلي مع مشاريع التفتيت القادمة من خارج الحدود.

الأطفال الذين عاشوا في المخيمات، في العراء أو في الحفر، لم يعرفوا المدارس ولا العائلة الممتدة، ولا الشارع الذي يُربي ولا الحيّ الذي يُهذّب.

كبروا على وقع الأصوات المنفجرة، وتفتّحت أعينهم على رجال يصرخون وآخرين يُقتلون، على أمهات تنتحب، وآباء في السجون أو تحت التراب.

ومن هذا الركام، انبثقت نسخ من العنف، لم تعكس بالضرورة هويةً دينية أو رؤية سياسية، بل عبّرت عن فوضى الروح حين تُسحق، عن النفس البشرية عندما تُركن في الزاوية.

ـ هل الحلّ في إدانة ما تبقّى من مجتمع؟ أم في محاولة تفهّم ما آل إليه؟
ـ هل من سبيل لفهم هذه الفاشيات، دون التوقف عند الجرح المفتوح؟

إن تفكيك هذه الحالة لا يبدأ من تفكيك الأفكار بل من إعادة بناء الشروط الدنيا لحياة ممكنة.. من استعادة الشعور بالأمان، من استرجاع الإيقاع البسيط للحياة:

ـ بيت ومدرسة وسوق وشارع، لا تحكمه البنادق ولا تسكنه الأشباح.

لا يمكن انتشال من سُحق إن لم يتوقف السحق، لا يمكن استعادة المعنى في ظل استمرار السلطة التي ترى في هذا الخراب شرطًا لبقائها.

ـ لكن كيف؟
كيف يمكن لجماعة مسحوقة، مفرّغة من النخب، من المؤسسات، من الأفق، أن تعيد إنتاج ذاتها كقوة واعية ومسؤولة؟

هنا لا أجوبة جاهزة،  التجارب حولنا، حتى في الظروف الأقل وحشية، لم تعطِ أملاً.

ومع ذلك، ثمّة إيمان خافت بأن الرماد قد يخفي جمرة، وأن الجريمة، مهما طال أمدها، لا تُلغي حقّ الضحية في النجاة.

ـ التوحش الذي نراه، ليس من عنف التاريخ وحده، بل من قسوة اللحظة.. ولكن ثمة ما يستدعي قوله:

هل جاءت متأخرة؟

نعم، تأخرت عن زمن الفعل، عن لحظة الانهيار الأولى، حين كان من الممكن تدارك شيء قبل أن يتسع الخراب ويستحيل واقعًا مستقرًا في الوجدان كما في الجغرافيا، لكنها، الكلمة التي تُقال بعد فوات الأوان:

ـ هي لا تُنقذ، لكنها قد تُضيء، وتلك الإضاءة قد تكون بداية طريق جديد، في زمن يطلبُ الحقيقة بلهفة مَن فقد كل شيء.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى