فرنسا والجزائر.. تصعيد “غير مسبوق” وتركيا في قلب الأزمة
مرصد مينا- هيئة التحرير
يتصاعد التوتر بين فرنسا والجزائر، حته وصفه مراقبون بـ”غير المسبوق”، خاصة بعد استدعاء الجزائر لسفيرها لدى باريس، للمرة الثانية، وحظر الطائرات العسكرية الفرنسية التحليق في أجواء البلاد، إثر تصريحات نسبتها وسائل إعلام فرنسية للرئيس “إيمانويل ماكرون” تناول فيها نظيره الجزائري، “عبد المجيد تبون” ونظام حكمه.
وبينما تقف أسباب علنية وأخرى خفية وراء التعليقات القاسية للرئيس الفرنسي، الذي وضع الأصبع على الجرح بشأن النظام “السياسي العسكري” الجزائري، كما يقول مراقبون، يعتبر آخرون أن ملاحظات الرئيس الفرنسي تجاوزت النظام القائم في الجزائر لتشمل المرحلة التي سبقت الاستعمار الفرنسي في إشارة إلى الاحتلال العثماني، ملمحين إلى دور تركي في توتر العلاقات بين البلدين، فيما يتحدث آخرون عن دور مغربي مرتبط بالأزمة بين الرباط والجزائر.
أزمة غير مسبوقة
حسب مقال لصحيفة “لو موند” يتعلق الكلام الذي نسب لـ”ماكرون” باجتماع عقد الخميس بين الرئيس الفرنسي وشباب من أحفاد أشخاص شاركوا في حرب استقلال الجزائر 1954-1962، اعتبر فيه أن الجزائر قامت بعد استقلالها في 1962 على “إرث من الماضي” حافظ عليه “النظام السياسي العسكري”، كما تحدث ماكرون، عن “تاريخ رسمي أعيدت كتابته بالكامل ولا يستند إلى حقائق” بل إلى “خطاب يقوم على كراهية فرنسا”.
وأضاف: “من الواضح أن النظام الجزائري منهك، الحراك في 2019 أضعفه”، معتبرا أن “تبون عالق في نظام صعب جدا”.
بدورها، قالت رئاسة الجمهورية الجزائرية إنه “على خلفية التصريحات غير المكذبة لعديد من المصادر الفرنسية والمنسوبة للرئيس الفرنسي، ترفض الجزائر رفضا قاطعا أي تدخل في شؤونها الداخلية، وهو ما جاء في تلك التصريحات”.
في سياق تعليقه على التوترات، يرى المحلل السياسي “علاء الدين قاسمي”، أن هناك شيء يحدث في كواليس العلاقات الجزائرية الدبلوماسية، التي تشهد توترا غير مسبوق، مشددا على أن التوترات بين البلدين اختلفت عما كانت عليه سابقا، محذرا من أن “قطع العلاقات مع فرنسا قد تكون مخاطرة حقيقية”.
وبالرغم من إقراره أن حصول توتر وبرودة في العلاقات بين الجزائر وفرنسا أمر طبيعي عند حصول مثل هذا النوع من الأزمات، يشير “قاسمي” إلا أنها غير مسبوقة في تاريخ البلدين، لافتا إلى أن “إغلاق المجال الجوي أمام الطائرات الفرنسية هو أمر لم يحصل في السابق، حيث أن الجزائر سمحت للطائرات العسكرية الفرنسية بعبور أجوائها منذ العام 2013، وهذا التصعيد بحد ذاته غير مسبوق.
يشار إلى أن هذه هي المرة الثانية التي تستدعي الجزائر سفيرها لدى باريس هذا العام، حيث استدعت في مايو 2020، سفيرها “صلاح البديوي” اثر بث فيلم وثائقي حول الحراك المناهض للنظام في الجزائر على قناة “فرانس 5” والقناة البرلمانية.
وعن مصير العلاقات بين البلدين، يرى “قاسمي” أن “هناك ملفات مشتركة عدة تربط الجانبين، وبالتالي من الصعب تجاوز الأمور هذا الحد”، مشيرا إلى وجود “اتفاقيات اقتصادية متينة جدا، ومعاهدات حول مكافحة الإرهاب وتتبع الجريمة العابرة للقارات، بالإضافة إلى دور مشترك في بعض الملفات الأمنية والإقليمية”، كل ذلك بحسب المحلل السياسي كفيل بمنع وصول العلاقات الجزائرية الفرنسية إلى مرحلة القطيعة بعد تقارب استمر منذ استقلال البلد العربي.
وتابع: “قرار حظر الطيران العسكري سيحمل أضرارا كبيرة على فرنسا، التي لديها التزامات عسكرية بالتواجد في مالي، وهي بالعادة تعبر الأجواء الجزائرية”.
يذكر أن الناطق باسم هيئة الأركان العامة الفرنسية، الكولونيل “باسكال إياني”، كان أكد في تصريحات صحفية أن الخطوة الجزائرية “لن تؤثر على العمليات أو المهام الاستخباراتية” التي تقوم بها فرنسا في منطقة الساحل.
حسابات انتخابية غير بريئة.. لوبان على الخط
اعتبر مراقبون أن اختيار ماكرون لهذا التوقيت لإطلاق تصريحاته النارية ليس بريئا تماما، وله علاقة مباشرة بهيمنة الخطاب اليميني المتطرف على الحملة الانتخابية الفرنسية.
في هذا الصدد كتبت صحيفة “تاتس” اليسارية الألمانية أن “تصريحات ماكرون الجديدة تندرج في سياق بداية الحملة الانتخابية للرئاسيات الفرنسية التي ستجرى في أبريل / نيسان 2022، والتي طبعتها مفاجأة كبرى تتمثل في صعود اليميني المتطرف “إريك زمور” في استطلاعات الرأي، على حساب مرشحين آخرين من اليمين.
الصحفي الجزائري المقيم في فرنسا، “فرحان شمس الدين”، يرى أن تصعيد اللهجة ضد الجزائر من شأنه أن يظهر “ماكرون” لدى الناخبين الفرنسيين في موقع الرئيس الصارم غير المتهاون في ضبط تدفق الهجرة.
ومن وجهة نظر أخرى، يرى “شمس الدين” أن الرئيس ماكرون بهذه التصريحات يريد التغطية على فضيحة صفقة الغواصات التي خسرتها فرنسا مع أستراليا، ما أدى إلى تعرضه لانتقادات شديدة في الداخل، في محاولة لتفادي تأثيرها على نتائجه في الانتخابات، كما توقع “شمس الدين” أن تتزايد خطابات التحريض ضد الجزائريين من أغلب مرشحي الرئاسة في فرنسا.
ولم تتردّد زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان في شنّ حملة عدائية وتحريضية على الجزائر والجزائريين في فرنسا، إذ دعت في مقطع فيديو نشرته على صفحتها الرسمية على فيسبوك، إلى حرمان السلطات الفرنسية الجزائريين من التأشيرات ووقف تحويلاتهم البنكية، قائلة: “الجزائر تعتقد أن فرنسا مدينة أبدية يمكن لمواطنيها دخول أراضيها في أي وقت، لذا على بلادنا أن تتخذ لغة صارمة جداً وأكثر وضوحاً، فرنسا هي مَن يقرر من يدخل إليها ومن يخرج منها”.
وأضافت لوبان: “يجب مراجعة تصاريح تحويل الأموال التي يرسلها الجزائريون إلى بلدهم والتي تقدر قيمتها بـ1.5 مليار يورو سنوياً، لأن هذه الأموال لا تساهم في تنمية الاقتصاد الفرنسي”، على حد تعبيرها.
ويرى خبراء ومحللون أن خطاب لوبان العدائي تسعى من خلاله في الأساس لاستمالة أصوات المعسكر اليميني خلال السباق الانتخابي القادم.
ولن تسنح فرصة أمام لوبان وأنصار التيار اليميني كافة، في سكب مزيد من الزيت على النار حول ملف الهجرة، أفضل من الأزمة الحادَّة التي اشتعل فتيلها بين باريس والجزائر، والتي مثلت قضية التأشيرات إحدى حلقاتها المهمة.
وبينما توجّه لوبان الأنظار إلى ملف الحوالات المالية والتأشيرات للجزائريين، يثار سؤال جادّ عما إذا كان من الممكن أن تخضع السلطات الفرنسية للضغط وتلوّح بالتالي بهذه الورقة خلال الأزمة الدبلوماسية الراهنة مع جارتها الجنوبية.
يذكر أن الجالية الجزائرية في فرنسا تعتبر من أكبر الجاليات الجزائرية في الخارج، إذ يُقدَّر عددهم في آخر إحصائية رسمية بنحو 5 ملايين جزائري. وقد بدأ توافد عديد منهم للعيش في فرنسا منذ حصول بلادهم على الاستقلال، بحثاً عن فرص أفضل للعمل والدراسة، وذلك في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها بلادهم، والمتواصلة إلى اليوم.
ما علاقة تركيا
يرى مراقبون أن التصريحات الأخيرة من الجانب الفرنسي، قد تكون جاءت بعدما رفضت الجزائر الوساطة الفرنسية في قضية قطع العلاقات مع المغرب، على اعتبار أن فرنسا تؤسس جبهة عداء مع إسرائيل والمغرب ضد الجزائر، يشير المحلل السياسي “نور الدين العثمان” إلى الدور التركي في الأزمة كاشفا عن محاولات تركية لتعزيز مصالح أنقرة في الجزائر، معتبرا أن ذلك أزعج باريس.
وكانت ملاحظات الرئيس الفرنسي قد تجاوزت النظام العسكري القائم في الجزائر لتشمل المرحلة التي سبقت الاستعمار الفرنسي حيث تساءل “هل كانت هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟ هذا هو السؤال”، مذكرا بوجود “استعمار سابق” للاستعمار الفرنسي.
وأضاف، “أنا معجب بقدرة تركيا على محو ذكرى الدور الذي لعبته في الجزائر والهيمنة التي مارستها”، في إشارة إلى الإمبراطورية العثمانية.
على إثر ذلك، دخلت تركيا على خط التصعيد الدبلوماسي بين الجزائر وفرنسا، عبر تصريحات لوزير خارجيتها “مولود جاويش أوغلو” انتقد فيها ما أسماه بـ”سعي باريس الدائم لتوريط بلاده في الماضي الاستعماري الفرنسي للجزائر”.
ويقول “العثمان” أن الأزمة بين فرنسا والجزائر، تزامنت مع عرض وزارة الطاقة الجزائرية على الأتراك فرص استثمار في مجال الطاقة والتنقيب مشيرا إلى أن العرض جاء ليكرّس توجه السلطة الجزائرية لتعميق التعاون الشامل مع تركيا.
وبحسب “العثمان” فإن فتح القطاع الاستراتيجي لأول مرة على الأتراك يحمل دلالات بأن الجزائر التي كانت تعتمد على الشركات الفرنسية والأميركية والبريطانية في مجال النفط، تريد فتح بوابة على تركيا التي ظلت طيلة السنوات الماضية تحوز فقط على استثمارات البناء والأشغال العمومية والسكن والخدمات.
ويجري حاليا العمل على تنفيذ مشروع للبتروكيماويات بين سوناطراك الجزائرية وشركة رينيسانس هولدنغ التركية، بولاية أضنة جنوبي تركيا، وتبلغ تكلفته المالية 1.4 مليار دولار بحصة 66 في المئة لرينيسانس هولدنغ، و34 في المئة لسوناطراك، وسينتج مادة البلوبروبيلان البلاستيكية التي تدخل في عدة صناعات على غرار السيارات والنسيج، وينتظر أن تشهد العلاقات الجزائرية – التركية انفتاحا جديدا من خلال عقد اللجنة المشتركة الحكومية الجزائرية – التركية، التي ستترأسها وزارة الطاقة والمناجم، وذلك بالموازاة مع لقاء منتدى للأعمال في البلدين.
هذا الانفتاح الذي يهدد مكانة فرنسا كشريك ثان للجزائر بعد الصين بسبب المنافسة التركية، هو ما أجج السجال السياسي والدبلوماسي بين باريس وأنقرة على خلفية حقبتهما التاريخية في الجزائر، بحسب العثمان.
يشار إلى أن وزير الخارجية التركي “مولود تشاووش أوغلو” رد على تصريحات الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” حول نفوذ أنقرة في الجزائر قائلا: “رأينا ولا نزال نرى أن مثل هذه الأساليب الرخيصة غير مجدية في الانتخابات أيضا”.
كما حذر “تشاووش أوغلو” من أنه “من الخطأ للغاية إقحام تركيا في هذه المناقشات، فتاريخها خال من أي وصمة عار مثل الاستعمار”، وتابع: “إذا كان لديه كلام يخصنا فنحن نفضل أن يقوله لنا مباشرة بدل الحديث من خلفنا”.