أخر الأخبار

في مواجهة الوهم

نبيل الملحم

ما أن يبدأ الغرق، حتى يتذكر الغرقى من أغرقهم، دونما حتى التفاتة لمن حذّر من الغرق، أو مدّ يداً لانتشال الغرقى، يحدث لنا، ومن بين “لنا”، لنا الفلسطينية وكان الثلاثي ادوارد سعيد، حيدر عبد الشافي، ومصطفى البرغوثي، ممن امتدت أيديهم لانتشال الفلسطينيين من الغرق، ففي الوقت الذي كانت فيه الوفود الفلسطينية تتصافح مع الإسرائيليين في حدائق البيت الأبيض، عام 1993، كان الثلاثة يدركون أن ما جرى لم يكن سلامًا، بل فخًا سياسيًا سيفضي إلى كارثة وطنية.

ثلاثة من رموز الفكر والسياسة والنضال الفلسطيني، وقفوا منذ اللحظة الأولى ليقولون:

ـ هذا اتفاق مجاني وشرعنة لاحتلال لا نهاية له.

ادوارد سعيد، لم ينتظر طويلاً فكتب بعد توقيع أوسلو مباشرة مقالة جاء فيها “إن ماوقعته منظمة التحرير هو الفشل الأخلاقي”، ومما رآه سعيد أن “الاتفاق خال من السيادة، لم يعترف بحق تقرير المصير أو بالقدس عاصمة، ولم يضمن عودة اللاجئين”.

واعتبر أن القيادة الفلسطينية “باعت الحقوق التاريخية مقابل سلطة وهمية على تجمعات بشرية محاصرة”، وتابع ليقول “إن أوسلو أخرج ملايين الفلسطينيين من المعادلة الوطنية، رغم أنهم يمثلون القلب الرمزي والفعلي للقضية”.

الطبيب والمناضل والمفاوض الفلسطيني حيدر عبد الشافي كان قائد الوفد الفلسطيني في مفاوضات مدريد، وقد عُرف بمبدئيته وهدوئه وصلابته الوطنية، قالها:”لم يعرض علينا”، والمقصود اتفاق أوسلو، وكان الرجل قد شعر بالإهانة وصولاً لقوله “لن نكون شهود زور”.

ورفض عبد الشافي الحضور إلى احتفال التوقيع، وكتب لاحقًا أن أوسلو لم يكن مشروعًا لبناء دولة، بل خطة لتفكيك الشعب الفلسطيني جغرافياً وسياسياً وقد استقال لاحقًا من المجلس التشريعي احتجاجًا على الفساد واستمرار المسار السياسي الخاطئ.

وهاهو مصطفى البرغوثي، وكان من الأصوات النادرة التي واجهت تيار أوسلو من الداخل، دون أن ينزلق إلى خطاب عبثي أو شعاراتي يقول :” إن الاتفاق قسّم الأرض، وأخرج القدس واللاجئين من المعادلة” ويصفه بأنه “غلاف ناعم لاحتلال قاسٍ”، و “قد تُرك الفلسطينيون للتفاوض مع أنفسهم”.

ويطرح البرغوثي بديلًا يتمثل في المقاومة الشعبية، والمقاطعة الدولية، وإعادة بناء الوحدة الوطنية على أساس ديمقراطي.

ما يجمع بين سعيد وعبد الشافي والبرغوثي، ليس فقط رفضهم لاتفاق أوسلو، بل رؤيتهم الأخلاقية العميقة للقضية الفلسطينية، ورفضهم تحويلها إلى مجرد تفاوض على تفاصيل حياة تحت الاحتلال.

لم يكن رفضهم نكاية، ولا تعنتًا، بل إيمانًا بأن الحرية لا تُمنح… بل تُنتزع، وأن الحقوق لا تُجزّأ.

اليوم، بعد أكثر من ثلاثين عامًا على أوسلو، ومع انهيار ما سُمّي بـ”حل الدولتين”، تبدو كلماتهم نبوءات سياسية كان يمكن أن تُنقذ المشروع الوطني الفلسطيني من الضياع.

ـ لو أُصغي إليهم.

نقول “لو”، و”لو” هذه ليست أداة تمنٍّ بل إشارة إلى ما كان ممكناً ولم يكن، هي الـ “لو” التي لاتعني العودة إلى الوراء بل الإقرار بأن ماحدث لم يكن قدراً بل خياراً، فماذا كانت النتائج لو أصغي اليهم، هل كانت النتائج ستختلف؟

نعم، النتائج كانت لتختلف بشكل جذري لو أُصغي إلى أصوات إدوارد سعيد، حيدر عبد الشافي، ومصطفى البرغوثي، لأنهم طرحوا رؤية بديلة تقوم على الثبات الوطني، الوحدة الحقيقية، ورفض التنازلات التي تكرس الاحتلال.

ـ لو تم اعتماد موقفهم:

لما تم تقسيم الأرض إلى كانتونات متناثرة، بل كان من الممكن بناء استراتيجية وطنية موحدة تحمي الحقوق الفلسطينية كاملة، من حق العودة إلى القدس.

لما استمر الاستيطان بالوتيرة التي نراها اليوم، لأن المفاوضات كانت سترتكز على موقف مبدأي لا يقبل التنازلات أو التمهيد لاحتلال دائم.

لما غابت المقاومة الشعبية السلمية القوية، التي أكدوا عليها كأداة ضغط فعالة تفرض إرادة الشعب الفلسطيني محليًا ودوليًا.

لما تم إهمال اللاجئين والشتات، بل كانوا في قلب المشروع الوطني، مما يعزز وحدة الشعب الفلسطيني ومستقبله.

باختصار، لو أُصغي إليهم، ربما لم نكن لنشهد حالة التشظي والانقسام التي مزقت القضية، ولا حالة المراوحة التي أدت إلى تراجع الحقوق الوطنية.

كانت فلسطين أقرب إلى تحقيق حلمها بالحرية والاستقلال، لا في إطار وهم أوسلو، بل في بناء كفاح وطني مستند إلى الثبات والكرامة.

قالها ياسر عرفات لمصطفى البرغوثي: لقد وقعنا بالفخ.
وكان عرفات أوّل ضحايا الفخّ الإسرائيلي.
ألم يمت عرفات مُحاصَراً مسموماً؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى