fbpx
أخر الأخبار

من غوبلز إلى الأسد: كيف استعارت الدعاية السورية إرث الإعلام النازي؟

محمد سامي الحبال – صحافي من برلين

“العمل يحرر”، “الأمل بالعمل”؛ بين هذين الشعارين خيط رفيع من التضليل يخفي وراءه عالماً من القمع والاستبداد. الأول، نقشته الدعاية النازية فوق أبواب معسكرات الموت في ثلاثينيات القرن العشرين، أما الثاني فقد برز في سورية تحت حكم بشار الأسد، ليتصدر الشعارات التي تحمل وعودًا فارغة في ظل واقع مليء بالقمع والحرب. في كلتا الحالتين، لم يكن الشعار سوى أداة لطمس الحقيقة وترسيخ النظام في أذهان الجماهير.

في ألمانيا النازية، استولى جوزيف غوبلز، وزير الدعاية النازي منذ عام 1933، على كافة وسائل الإعلام، حيث سيطر على الصحف مثل دير فولكيشر بيوباختر (Der Völkischer Beobachter) والإذاعات مثل محطة رايخسروندفونك (Reichsrundfunk). استغل غوبلز هذه المنصات لترسيخ الإيديولوجيا النازية وإشعال مشاعر الكراهية تجاه الأقليات العرقية والمعارضين.

بالمقابل، بدأ حافظ الأسد في سورية منذ وصوله إلى السلطة عام 1970، باستنساخ تلك الأساليب النازية، حيث أخضع الإعلام السوري بالكامل لسيطرة الدولة. صحف مثل الثورة و تشرين و البعث أصبحت أدوات دعائية للنظام، تروج لصورة الأسد الأب على أنه “القائد الخالد” وتبرر سياساته الداخلية والخارجية.

شعار “العمل يحرر” على بوابة معسكر اعتقال نازي في أوشفيتس

التلاعب بالمصطلحات: “الإرهاب” مقابل “العرق الآري”

تتجلى التشابهات بين النظامين بشكل أعمق في التلاعب بالمصطلحات والمفاهيم. ففي ألمانيا النازية، روج الإعلام لمصطلحات مثل “المسألة اليهودية” و”العرق الآري” كأدوات لتبرير الإبادة الجماعية. في سورية، استخدم النظام مصطلحات مشابهة مثل “الإرهاب”، “المؤامرة الكونية” و”الخيانة الوطنية” لتشويه صورة المعارضين. بعد عام 2011، تضاعف هذا الخطاب مع اندلاع الثورة السورية، حيث أظهرت وسائل الإعلام الرسمية مثل قناة الإخبارية السورية و تلفزيون الدنيا المعارَضة كأعداء للوطن ومتآمرين على استقراره.

التأثير العاطفي: بناء شخصية “المنقذ”

أما فيما يتعلق بالتأثير العاطفي، فقد استفاد الإعلام النازي من أدوات مثل الأفلام الدعائية، مثل فيلم انتصار الإرادة (Triumph des Willensالذي يُظهر هتلر كمنقذ للأمة الألمانية. في سوريا، استُخدمت تقارير تلفزيونية وصور مفبركة لإثارة الخوف بين السوريين من “الفوضى” فيما لو سقط الأسد. كان الهدف في كلا الحالتين هو خلق صورة البطل المنقذ الذي لا غنى عنه.

من الشعارات التي روجت لها الدعاية النازية: “ألمانيا فوق الجميع”، والتي كرست التفوق القومي الألماني. بالمقابل، ركزت الدعاية السورية على شعارات مثل “إلى الأبد، يا حافظ الأسد”، لترسيخ عبادة الشخصية.

في هذا السياق، نجد تشابهاً صارخاً بين الاستفتاء الشعبي الذي أجرته ألمانيا النازية في 29 آذار 1936 على حكومة هتلر، حينها نشرت صحيفة “دير فولكيشر بيوباختر” صورة ضخمة لهتلر تحت عنوان: “أيها الزعيم، نحن نتبعك! كلنا نصوت لأدولف هتلر”. مشهد يكاد يتكرر في سورية الأسد، وتحديداً في ذكرى “ثورة” 8 آذار، حيث عنونت صحيفة “البعث”: “الجماهير تجدد عهدها مع قائد مسيرتها”. لم يكتفِ الإعلام السوري بالتشابهات في الشعارات، بل استلهم ألقاباً أسبغها على حافظ الأسد، مستوحاة من نفس الهالة التقديسية التي نسجها الإعلام النازي حول هتلر.

صحيفة دير فولكيشر بيوباختر: الاستفتاء الشعبي على سياسة حكومة هتلر ٢٩ آذار ١٩٣٦

شويه الحقائق من خلال تغطية الجرائم

تشويه الحقائق كان الأساس في كلتا التجربتين. في ألمانيا، زورت الدعاية النازية الأخبار لإخفاء المجازر التي ارتكبها الجيش الألماني في أوروبا. وبالمثل، أخفى الإعلام السوري الجرائم التي ارتكبتها قوات النظام ضد المدنيين، وبدلاً من ذلك كان يُبرز صوراً مختلقة لاحتفالات شعبية دعماً للأسد. الإعلام النازي كانت مهمته الكبرى تبرير مجازر الهولوكوست (المحرقة)، بينما كان يسعى الإعلام السوري لتغطية الفظائع في السجون والمعتقلات مثل تدمر وصيدنايا.

الإعلام في معسكرات الإبادة والتعذيب

لم يكن الإعلام مجرد أداة للتضليل في الساحة العامة فحسب، بل كان أيضاً أداة لتغطية وتعزيز الفظائع التي ارتكبتها الأنظمة الاستبدادية. في ألمانيا النازية، لعب الإعلام دوراً رئيساً في تبرير المجازر في معسكرات الإبادة مثل أوشفيتز، حيث كانت الصحف والإذاعات تزيف الحقائق وتعرض الضحايا كتهديد للمجتمع الألماني. أما في سورية، فكان الإعلام يساهم في محو الحقيقة عن القمع والاعتقال التعسفي في سجون النظام السوري، كسجن تدمر وصيدنايا. في تلك المعتقلات، كانت عمليات التعذيب الجماعي والتصفية الجسدية تحدث بشكل يومي، لكن الإعلام الرسمي كان يروّج لصور وفيديوهات تظهر الحياة الطبيعية في سورية، متجاهلاً كا طان يجري في الخفاء.

التعاون مع النازيين

من اللافت أن النظام السوري استمد خبراته الدعائية بشكل ملحوظ من بعض الشخصيات النازية التي وجدت في سورية ملاذاً آمناً بعد الحرب العالمية الثانية. ألويس برونر، اليد اليمنى لأدولف آيشمان رئيس المخابرات الألمانية، كان من بين هؤلاء الفارين. لجأ إلى دمشق في عام 1954، حيث حصل على الحماية من السلطات السورية، وعمل مستشاراً للنظام في مجالات متعددة تشمل الأمن والإعلام. برونر، الذي توفي في دمشق في عام 2010، قد يكون أحد أبرز المهندسين الذين ساعدوا في نقل استراتيجيات الدعاية النازية إلى سورية، إذ لعب دوراً رئيساً في تقديم الخبرات النازية في السيطرة على الجماهير واستخدام الدعاية لتعزيز صورة الحاكم الفرد الذي يُنظر إليه كرمز للقوة والمنقذ الوحيد للأمة.

تُشير تقارير تاريخية إلى أن برونر لم يكن الوحيد؛ بل أن شخصيات نازية أخرى مثل أوتو سكورتسيني، الذي كان يعرف بـ “الرجل الأكثر خطورة في أوروبا”، تواصلت مع السلطات السورية في الخمسينيات والستينيات، وأسهمت في تدريب بعض الكوادر الأمنية والإعلامية السورية على تقنيات الحرب النفسية والدعاية السياسية. هذه الشخصيات استلهمت أسلوبها من فلسفة غوبلز، وزير الدعاية النازي، الذي أرسى قواعد أساسية في التضليل الإعلامي، مثل “اكذب ثم اكذب حتى تصدقك الجماهير”، وهي المبادئ التي طُبقت بشكل مشابه في الإعلام السوري.

أبرز المظاهر التي تؤكد هذا التأثير النازي تجلت في تركيز الإعلام السوري على خلق صورة “الزعيم المُخلِّص” الذي تُحيط به هالة من القدسية، وهو الأسلوب نفسه الذي استخدمه النازيون في تقديم هتلر كرمز لا يُقهر. بالإضافة إلى ذلك، استخدم النظام السوري ذات النهج في تجريم المعارضة، ووصمها بالخيانة والتآمر ضد “الوطن”، وهي مفردات شبيهة بتلك التي استخدمتها الدعاية النازية لتصفية الخصوم السياسيين وتوحيد الشعب خلف النظام.

تأثير الإعلام على المعارضة

هذا التعاون بين النظام السوري وبعض النازيين السابقين يعكس تقاطعات إيديولوجية في فهم أهمية الإعلام كأداة لإحكام السيطرة على المجتمع وتثبيت الحكم الشمولي. ويُعتقد أن هذا الإرث الدعائي المشترك ساهم في تشكيل بنية الإعلام السوري ليكون أحد أقوى أدوات النظام في تبرير القمع والسيطرة المطلقة على الخطاب العام. هذا يشمل أيضاً استخدام الأساليب ذاتها لتشويه صورة المعارضة ووصمها بالخيانة والتآمر.

وفي هذا السياق، كان الإعلام السوري يلاحق الصحافيين والمثقفين الذين حاولوا كشف الحقيقة. ميشيل كيلو ورياض الترك وغيرهم تعرضوا للاعتقال والتعذيب بسبب آرائهم المعارضة، ما يعكس الاستخدام القمعي للإعلام لضمان صمت أي صوت معارض. وفي ألمانيا النازية، الصحافي الألماني كارل فون أوسيتزكي، الحائز على جائزة نوبل للسلام عام 1935، قضى حياته في معسكرات الاعتقال بسبب كتاباته المعارضة للحزب النازي.

“انتصار الإرادة” فيلم دعاية نازي للمخرجة الألمانية ليني ريفنشتال أنتج في آذار ١٩٣٥

تدمير النسيج الاجتماعي

أما على الصعيد الاجتماعي، فإن آثار البروباغندا تظهر جلية في تمزيق النسيج الاجتماعي. إذ أدى خطاب الكراهية في ألمانيا النازية إلى إبادة 6 ملايين شخص، أما في سورية، فقد غذّى خطاب النظام الطائفي نزاعات داخلية وأشعلت حرباً أهلية مستمرة. في كلا النظامين، كان للإعلام دور كبير في تعزيز هذه الانقسامات والترويج للإيديولوجيات المدمرة.

الإعلام الحربي: سلاح لتشويه الحقيقة

الإعلام الحربي كان سلاحاً مشتركاً بين التجربتين، حيث استخدم لإبراز الانتصارات العسكرية المزعومة. الجيش الإلكتروني السوري الذي نشط بقوة منذ عام 2011 هو استمرار لتلك الاستراتيجية، حيث اعتمد على نشر الفتن والأكاذيب عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتشويه سمعة المعارضة وخلق الانقسامات.

إرث الإعلام الاستبدادي

إن تجربة الإعلام السوري تبدو استنساخاً متقناً لنهج الإعلام النازي، سواء في التحكم الكامل بالساحة الإعلامية أو في استغلال الأدوات التكنولوجية المتاحة لنشر الأكاذيب وتزييف الحقائق. من ألمانيا النازية إلى سورية الأسد، تتضح الصورة: الإعلام في الأنظمة الاستبدادية ليس سوى وسيلة لبسط الهيمنة الفكرية، تُقمع من خلالها الحقيقة، ويُزرع الوهم في عقول الجماهير.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى