من يراهن على القلق التركي واعادة رسم سياسات أردوغان؟
هو القلق التركي.. القلق وقد رافق الدولة منذ انهيار العثمانية مرورًا بمصطفى كمال وصولاً إلى أردوغان:
ـ الغرب أم الشرق؟
ـ العلمانية أم الإسلام؟
ـ الديمقراطية أم الاستبداد؟
ومع كل “قلق”، دكتاتورًا تركيًا، ومشاكل تتفاقم، ودولة تتأرجح، ليبقى الجيش والمؤسسة العسكرية اللاعب “مرة المجهول وفي الصفوف الخلفية” وثانية في مقدمة اللاعبين.
اليوم يتضاعف القلق التركي، خصوصًا ما بعد الحرب السورية، فمن تركيا وقد فتحت حدودها لتكون شريكًا في الحرب وطرفًا فيه، إلى لاعب جانبي يرتب مع الروس، ويتصادم مع الأمريكان، وتمد نصف يد لمصر، وتطرد بنصف يد جماعة الاخوان، وكليهما الترتيبات هي نصف ترتيبات، والتصادم هو نصف تصادم، وطرد الاخوان كما احتواءهم هو نصف طرد ونصف احتواء، وهي الحيرة التركية التي لم تتوقف.
بما هو ظاهر فإن مواقفها المستجدة تغلبها براجماتية زائدة دون أفق معروف لما يمكن أن تذهب إليه فى ملفات ملغمة تدخل فى شواغل قوى إقليمية ودولية نافذة.
وبما هو معلن فإنها تسعى للتهدئة مع مصر ودول الخليج دون أن تراجع فى العمق أسباب الصدام ودواعيه، وتعمل على خفض التوتر مع اللاعب السياسي الأوروبي، خاصة فرنسا، في أزمتي ليبيا وغاز شرق المتوسط دون أن تتراجع عما اتخذته من مواقف وعقدته من اتفاقيات مطعون في شرعيتها مع حكومة الوفاق الوطني.
كان مؤتمر «برلين 2» اختبارا حقيقيا للمدى الذى يمكن أن تذهب إليه أنقرة فى الأزمة الليبية، كما كان كاشفا لقدر انعكاس المتغيرات العاصفة فى العالم والإقليم على هذه السياسة ، التي تحاول أن تتلاءم مع حقائقها دون تخل بقدر ما هو ممكن عن جوهر مواقفها.
في ذلك المؤتمر تأكد التوافق الدولي على أولوية “سحب المرتزقة الأجانب بشكل متوازن ومتواز”.
سحب المرتزقة يعني سحب الفصيل التركي الاحتياطي.. الفصيل الذي يموت دون جائزة رحيل لموتاه، فيما جائزة الرحيل لابد وتكون للحكومة التركية.
حدثت تفاهمات أولية تركية روسية فى الكواليس على بدء سحب المرتزقة بشكل تدريجى ودون إخلال بموازين القوى الحالية، غير أن التفاهمات حتى اللحظة لاتطمئن،
فتفجير الموقف سيناريو غير مستبعد والألغام السياسية والأمنية ماثلة فى المشهد .
هذا الاستخلاص، ليس مبكّرًا، فوقائع السياسات التركية كانت على الدوام تقول بأن ثمة سيناريوهين متضادين مع كل حالة، وهكذا فإن ما جرى التوافق عليه فى «برلين2»
الروس ينفون أن تكون لهم صلة بـ«مرتزقة فاجنر»، أو أن الكرملين من جلبهم إلى الأراضى الليبية، وغير مستعدين بالوقت نفسه للتخلي عن أي مكاسب استراتيجية حازوها.
والأتراك يتنصلون بصورة أو أخرى من المرتزقة السوريين، الذين أرسلوهم إلى ليبيا، لكنهم يتحفظون على الدعوة لسحب القوات الأجنبية، استنادا إلى أن وجودها «شرعي» وفق مذكرة أمنية موقعة مع حكومة السراج.
بالنسبة لمصر وأطراف عربية أخرى فإنها لم تكن تخفي قلقها البالغ من التمركزات العسكرية بالقرب من حدودها الغربية، التي كادت تفضي إلى مواجهات عسكرية بالسلاح قبل أن يتم التوصل إلى تفاهمات وقف إطلاق النار والعودة إلى مسار برلين وما أعقبها من فتح حوارات معلنة وغير معلنة .
وبالنسبة للولايات المتحدة وأطراف أوروبية عديدة فإن تقليص النفوذ الروسي في ليبيا أولوية مطلقة، تدعو إلى سحب جميع المرتزقة، لكن عينها أولا على مرتزقة “فاجنر”.
الأمريكان لم يغسلوا اليد من “أردوغان”، فهناك استحقاقت ستترتب على الولايات المتحدة.. هي استحقاقات جديدة، أولها إسناد دور أمني فى حماية مطار كابول بعد انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان خشية انهيار الحكومة ونشوء إمارة إسلامية على أنقاضها.
المخاوف الأمنية الأمريكية تبحث عن رديف من داخل الإقليم للسيطرة على التفاعلات الأفغانية المتوقعة وتركيا ترحب بلعب مثل هذا الدور في انتظار جوائزه حيث الأزمات التي تشتبك فيها – الليبية والسورية وغاز شرق المتوسط.
تقارير عديدة وصفت اللقاء الذي جمع الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» مع «بايدن» إشارة أولى لإعادة توصيف الأدوار والعلاقات والمصالح بين البلدين.
المتغير الأوروبي حاضر بدوره في الحساب التركي الجديد.
التقارير اياها ستلفت إلى أمر بالغ الأهمية، وهو يتعلق بالسؤال:
ـ ما بعد التوترات الفرنسية / التركية، من ستختار الولايات المتحدة من شريكيها في الناتو؟
على الغالب ستكون الاجابة أنه إذا كان هناك خيار افتراضي الآن بين فرنسا وتركيا، فإنها باليقين ستختار فرنسا.
من يعتقدون بذلك يبررون اعتقادهم اعتمادًا على حقائق القوة والمصالح ففرنسا ذات أهمية جوهرية فى استراتيجية «بايدن» بحسبانها أهم لاعب سياسي في الاتحاد الأوروبي، الشريك الطبيعي في إعادة بناء التحالف الغربي بمواجهة الصين وروسيا بدرجة أقل.
الأتراك فهمو هذا الأمر، ولولاه لما كان لقاء «أردوغان» مع الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» وكان اللقاء إشارة لتغيير الدفة في السياسات التركية من الصدام المحتمل إلى التفاهم الممكن.
المؤكد، أن لتركيا موقعًا استراتيجيًا في حلف «الناتو» بحكم موقعها وحجمها، حتى لو كانت مزعجة أحيانا، لكنه لا يمكن الاستغناء عنها.
المتغيرات وقعت، وعواصفها اليوم دفعت السياسة التركية إلى طلب المصالحة مع مصر ودول الخليج في وصلات غزل دبلوماسي مفاجئة بداعي تجنب تفاقم الأزمات الداخلية على خلفية التورط فى سوريا والصدام مع مصر ..
متغيرات في الخطاب التركي، بل وفي الممارسات الداخلية التركية وصولاً الى طرد “نجوم” من اعلاميي جماعة الاخوان، لها الكثير من الدلائل.. دلائل تقول بأن تركيا على عتبة التغيير.
تغيير ولكن الى أين؟
حتى اللحظة ليس ثمة من يراهن على سياسات تركية مستقرة، مفهومة، ثابتة ودائمة، إنه القلق التركي الذي يقلق الحلفاء، ولا يسمح بالصداقات.