أخر الأخبار

هذه دمشق أيها الأوباش

نبيل الملحم

لا يحتاج تحطيم التماثيل في دمشق إلى كثير من التحليل، ولا إلى محاضرات في تاريخ الفن، ولا إلى جدل حول “جمالية العمل” أو “هوية الفنان” أو “مناسبة النُصب لسياق المدينة”. من يُدمّر التمثال، ببساطة، لا يرى فيه قطعة فن، بل يرى فيه خطيئة يجب اقتلاعها.

ومع كل حدث مماثل، نسمع الأسطوانة نفسها: هذا التمثال يعود للنظام السابق، ذاك لا يُعجب الذائقة العامة، آخر يُمجّد البعث، وثالث فنانُه لديه موقف سياسي غير مريح… قائمة طويلة من التبريرات، يُدلي بها أشباه المثقفين وأشباه الفنانين، وكأن تحطيم أثر ثقافي صار نقاشًا ذوقيًا يُدار في مقهى.

المشكلة ليست في التمثال نفسه، ولا في الفنان الذي نحته، بل في العقلية التي ترى في الحجر خطرًا، وفي الجمال تهديدًا، وفي أي تجسيد لفكرة أو شكل مدخلًا إلى الكفر والشرك. هذه عقلية لا تُجادل في قاعة ندوات، بل تُحمل على أكتاف الخوف، وتمضي مطمئنة لأنها تفعل “الصواب المقدس”، حتى لو كان هذا الصواب يعني سحق ذاكرة المكان.

ما هو أخطر من يد المُخرّب، هو ذهن المُبرّر، الذي يُحوّل الجريمة إلى وجهة نظر، ويمنح التخريب غطاءً فنيًا أو سياسيًا زائفًا. هؤلاء لا يُحطمون الحجر فقط، بل يضربون الضمير الثقافي للمدينة، ويشرعنون الخراب تحت عناوين تبهج الضواري وقطّاع الزمن.

في دمشق، كما في مدن كثيرة ابتُلِيَت بعقليات مماثلة، لا يُدمر التمثال لأنه “قبيح”، بل لأنه موجود.

وجوده بحد ذاته استفزاز لعقلية تُريد الفضاء كله نقيًا من أي أثر إنساني، نقيًا من التعبير، نقيًا من التاريخ، نقيًا من الحياة.

التاريخ يُعيد نفسه، ليس لأن الناس لا تتعلّم، بل لأن الجُبناء يبرّرون، والمثقفين يتواطؤون، والحجارة تسقط بصمت… ثم يبدأ الجميع بالبكاء على حطام ليس من المتاح استعادة حياته أو استعادته.

عميان، يشتغلون على إعماء مدينة، كانت وحتى حدود الأمس:
ـ ذاكرة المدنية.
هذه دمشق أيها الأوباش.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى