fbpx

نساء صغيرات.. ما دمرته الحرب تحييه المرأة

حتى اللحظة، مازالت تسمية (نساء الأنقاض) تتردد باللغة الألمانية، وربما بعضهن مازلن على قيد الحياة والتذكّر، وإذا كانت العقود الفائتة قد أخذت تلك النسوة إلى النهايات الطبيعية للإنسان، ونعني الموت، فثمة من يحكي أسطورتهن، فالنصب التذكارية لـ “امرأة الأنقاض”، ما تزال قائمة في مدن عديدة كما حال مدينة ميونيخ وسواها، وهي نصب تدفع العابر لتذكر ذلك الدور الهائل الذي لعبته المرأة ما بعد أن انتهت الحرب، وعاد المحاربون إلى حيث لا بيوت، ولا جسور، ولا مبان، ومدن بكاملها مازالت تحت أنقاض ما تسببت به الحرب من كوارث.

  • هل نشبه التجربة السورية بتلك؟

لسعت الريح المحملة بالغبار ملامح بيان، وكما تلاحظون فالاسم يصلح مذكّراً كما يصلح مؤنثاً، ولكن بيان هنا هي صبيّة قامشلية، لها ابتسامتها ناعمة، وأناملها الصغيرة.

  • بيان لتصليح اطارات السيارات:

“بيان” اسم يعرفه كل من يقصد مخيم “سردم” لنازحي عفرين في منطقة ” الشهباء” الذي نزحت إليه وعائلتها بعد احتلال مدينتها “عفرين” على يد القوات التركية ومن تدعم. امتهنت “بيان” الصبية اليافعة، مهنة تصليح إطارات السيارات، والشاحنات، والدراجات، لتؤمن قوت عائلتها المكونة من ثمانية أشخاص، وتحفظ كرامتهم من الحاجة، وهي الوحيدة بين شقيقاتها الخمس التي لم تتوقع يوماً أن تعترك غمار عمل رجالي. تستقبل الشابة اليافعة، الزبائن مبتسمة رغم جراحها الخفية التي خلفتها معاناة النزوح والعيش في المخيم والعمل لساعات طويلة قد تستمر حتى آخر خيوط الشمس. أتقنت بيان المهنة التي ورثتها عن والدها، فتكاتفت العمل إلى جانبه في الورشة، التي افتتحها الأب قبل أشهر في المخيم، وتناوبا سوية على العمل. *سيلفا لقيادة “التركس”: تنجذب الإناث الأعمال ذكورية، إما شغفاً بتلك المهن، أو من باب الهواية، أو لقسوة الظروف المفروضة عليهن، يقابلهن إلى جانب ذلك استهجان المجتمع لهن بنظرة دونية، ترفضها بيان كأنثى تمتلك إمكانات لا تقل عما يمتلكه الرجل حسب رأيها الذي تؤيده ” سيلفا أحمد ” 16 عاماً والتي تعمل سائقة للمركبات والشاحنات الكبيرة في مدينة “عامودا” منذ أن كانت في التاسعة من عمرها، فنجاحها تبديه بكل ثقة في قيادة (التريكس) كأول صبية في المنطقة تقود تلك الآلة الضخمة، والذي ارتبط بشكل مباشر بالتحدي وإثبات ذاتها بجدارة. قيادة المركبة بحجمها الكبير، استصعبته “سيلفا ” في بداية ولوجها عالم العمل الذكوري، لكنها تخطتها بسرعة بتشجيع من والدها، والذي لم يمانع رغبة ” سيلفا” أصغر بناته العمل معه. نسبة النساء العاملات في مهن شاقة ، ارتفعت خلال السنوات السابقة ، والتي تكون النساء حتى الصغيرات منهن ، مجبرين على العمل في تلك المهن  لحفظ كرامتهن ولتأمين لقمة العيش  كما تشير سيلفا أحمد وتضيف :” والدي كان معيلنا الوحيد ، بعد استشهاد شقيقي في إحدى المعارك ضد تنظيم داعش ،  فوجب علي أن أحل مكانه في العمل  لسد مصاريف دراستي الثانوية ودراسة شقيقاتي الثلاث الجامعية  وتأمين حياة كريمة لعائلتي “.

  • بتول.. العمل في تحضير الوجبات السرية:

رغم ما يمكن أن تلقاه الفتيات العاملات من انتقادات لاذعة في هذه المهن، إلا أنها لم تؤثر على عزيمة “بتول سعيد” في استمرارها في عملها بمحل بيع الوجبات السريعة في مدينة “القامشلي”، منذ أربع سنوات بعد نزوحها من مدينة “حلب” مع شقيقاتها الثلاث، وأخيها الصغير ووالدها. لم يرأف القدر لسنوات عمر “بتول” السبعة عشر” لتجد نفسها مسؤولة عن أسرتها لتقوم بواجب الأم والأب والمعيل بعد وفاة والدتها بمرض السرطان وزواجه من سيدة أخرى وتركهم في مهب الريح على حد وصفها. زمن تقسيم المهن حسب الجنس تستطرده سعيد، وتحسبه عاملاً جاذباً إلى الوراء والتخلف في بلد يعمه الفقر، والبطالة، والنزاعات المسلحة، فهي تعمل كما تبين لتحمي نفسها، وأخوتها من العوز، وكي لا تظل عبئاً على المجتمع تنتظر كرامات الخيرين ورحمتهم. وتتابع بتول التي رفضت أن نلتقط لها صورة: “توفيت أمي في” “حلب”، وأنا أكبر أخواتي، ولا معيل لنا بعد أن تركنا والدي، وتزوج بامرأة أخرى، فوجب علي أن أجد عملاً مهما كلفني الأمر، إلى أن جاءنا جارنا، وعرض علي العمل معه في مطعمه أبيع الوجبات السريعة وبأجرة “50” ألف ليرة سورية شهريا أي ما يعادل “115” دولاراً تقريباً، لم أتردد في قبوله لأني أحتاج إلى العمل، وكان عملاً لم أتخيل يوماً أن أجد نفسي داخله”.

  • عنود لبيع الخضار:

“عنود حسين” تمردت بدورها على عادات وتقالید المنطقة التي ولدت فيها، وتربت عليها في مدينة “تل حميس” ولم تفكر في القیود الاجتماعية التي من الممكن أن تحرمھا من حبھا للعمل في محل بيع الخضرة الذي يمتلكه زوجها “ليث” وقررت مساعدته والعمل معه. وتؤكد عنود “17” عاماً أن هناك الكثير من النساء الناجحات في عملهن وفي البيت على حد سواء، فهن مهندسات وطبيبات وناشطات اجتماعيات، وموظفات وسياسيات وسائقات إضافة الى إنهن ربات بيت ناجحات وتضيف: “النظرة المتدنية للمرأة، انحسرت في الكثير من المجالات، بعدما أثبتت المرأة قدراتها الخلاقة، في كل ميادين العمل”. فبيان، وسيلفا، وبتول، وعنود، بتن أمثولة لتلك المرأة، التي فرضت وجودها في مختلف محافل الحياة الاقتصادية، والاجتماعية والسياسية والثقافية وحركت عجلة الاقتصاد بدخولها معترك العمل بمهن شاقة كانت حكراً على الرجال.

  • ما الذي تقوله لنا لمعان من عامودا؟

لمعان، وهي باحثة اجتماعية، اشتغلت على موضوعات تخص المرأة، ترى أن الحرب وقد دمرت المدن والبلدات السورية، لابد وأنها أحيت المرأة السورية، فأماتت هناك وأحيت هنا، وحين نسألها إيضاح ما تقصد، تجيبنا بهدوء الباحث، ان زمن المرأة / الحرمة، قد انتهى.. موضوعياً لم يعد بالوسع قبوله، ليس من الناحية المزاجية، أو من الدوافع الفكرية المتصلة بالحقوق فحسب، بل من الناحية الموضوعية الصرفة، فالبلاد مدمرة، والذكور إما مهاجرون، وإما ملتحقون بالأعمال العسكرية، ما جعل مناطق بكاملها أو بمعظم سكّانها من النساء، وفي حال كهذا، ما الذي يمكن أن يحصل، وعلى عاتق من ستكون مهمة إعادة تعمير ما دمرته الحرب، ومن سيستعيد إلى البلاد حياتها؟ إنها المرأة، ولذلك أقول: ـ الحرب التي قتلت هناك.. أحيت هنا. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى