كورونا.. أحاديث النبوءات.. كلام في المؤامرة – الحلقة 4
مع انتشار الوباء، انتشرت القراءات، جزء كبير منها اعتمد نظرية المؤامرة، وفي جزء منها اعتمد قراءة:
ـ ما بعد كورونا.
وكان السؤال:
ـ إلى أين سينجرف العالم ما بعد الوباء؟
كان للمؤرخ الإسرائيلي يوفال نوح هراري، فرصة واسعة للانتشار مع كورونا، حتى بات واحدًا من نجوم السوشيال ميديا لأيام متوالية حين نشر بحثًا لايخلو من الجدية حمل عنوان ” العالم بعد الفيروس التاجي كورونا” وكان الناشر هو جريدة فايننشال تايم واسعة الانتشار.
لمزيد من المعرفة، كانت سيرة الكاتب الشخصية قد استحوذت على مساحة من المنشورات، فهو من مواليد 24 فبراير 1976، وهو مؤرخ إسرائيلي وأستاذ جامعي في قسم التاريخ في الجامعة العبرية في القدس، كما أنه مؤلف كتاب “العاقل .. تاريخ مختصر للجنس البشري” و كتاب 21 درسًا للقرن الواحد و العشرين، كما أن كتاباته تتناول و تفحص مواضيع مهمة كالارادة الحرة، الوعي و كذا الذكاء.
كتابات هراري الأولى تتناول مايسميه بـ “الثورة الادراكية” التي حدثت قبل حوالي 50.000 سنة ، عندما تمكن الهوموسابينز من التفوق على النيندارثالز ، وذلك بتطويره المهارات اللغوية والهياكل الاجتماعية، وهذا ما جعله يرتقي هرم المفترسين مستغلا “الثورة الزراعية” التي بدورها اعتمدت في وقت متأخر على المنهجية العلمية والتي مكنت الانسان من السيطرة على محيطه بشكل شبه كامل.
كتبه اللاحقة أكثر حذرًا، اذ تتناول النتائج البيوتكنولوجية التي ستخلق عالما يتفوق فيه الذكاء الاصطناعي على خالقه البيولوجي، حيث قال ” الهومو سابينس كما نعرفه سيختفي بعد قرن او أكثر بقليل”.
حين جاءت موجة وباء كورونا، نشر مقالته تلك، مع استنتاج مسبق جاء فيه:”لا ريب من أن هذه العاصفة ستمر”، وبعدها استدرك:”غير أن الخيارات التي نتخذها الآن سوف تغير حياتنا لسنوات قادمة”.
بدا هراري محذراً مما ستواجهه البشرية الآن أزمة عالمية. ربما “هي الأخطر في جيلنا” حسب قوله، ومن غير المستبعد أن تشكل هذه القرارات التي يتخذها الناس والحكومات في الأسابيع القليلة المقبلة عالمنا لسنوات قادمة.
• ماهي تنبؤات هراري؟
ـ “سوف لن تغير أنظمة رعايتنا الصحية فقط ولكنها سوف تعيد تشكيل اقتصادنا وسياستنا وثقافتنا أيضاً”.
إذن ووفق هراري “علينا أن نتصرف بسرعة وحسم، وعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار العواقب طويلة المدى لأعمالنا.. يجب أن نسأل أنفسنا عند الاختيار بين البدائل، ليس فقط عن كيفية التغلب على التهديد المباشر، ولكن أيضاً عن أي نوع من العالم سنعيش فيه بعد مرور العاصفة. نعم، ستمر العاصفة، ستبقى البشرية على قيد الحياة، سيظل معظمنا على قيد الحياة – لكننا سنعيش في عالم مختلف”.
ـ أن العديد من تدابير الطوارئ قصيرة الأجل التي نقوم بها الآن سوف تتحول إلى عناصر ثابتة في حياتنا. هذه هي طبيعة حالات الطوارئ. فتقديم العمليات التاريخية يتم بسرعة مذهلة. وإن القرارات التي يستغرق إقرارها سنوات من المداولات في الأوقات العادية يتم تمريرها الآن في غضون ساعات، إذ يتم استخدام التقنيات غير الناضجة وحتى الخطرة هذه الأيام لأن مخاطر عدم القيام بها سيجعل الضرر أكبر.
ـ وهكذا (ووفق هراري) تعمل دول بأكملها مثل خنازير غينيا في تجارب اجتماعية واسعة النطاق.
لقد كان استنتاجه بالغ القسوة، غير أنه سيثابر على المزيد، فبعد هذا الاستخلاص يتساءل:
ـ ماذا يحدث عندما يعمل الجميع من المنزل ويتواصلون عن بعد فقط؟ ماذا يحدث عندما تتصل المدارس والجامعات بأكملها بالإنترنت؟
يقترح هراري هذا السؤال، كما لو أن الحجر الصحي سيستمر دهورًا، أو كما لو انه يتحوّل إلى قاعدة في التعامل البشري تأخذ صفة الديمومة، فوفق قراءته:
“في الأوقات العادية، لن توافق الحكومات والشركات والمجالس التعليمية على إجراء مثل هذه التجارب. لكن هذه الأوقات ليست عادية” وهاهو يتابع تبريره لهذا الاستخلاص:
من أجل وقف هذا الوباء، (والكلام لهراري)، على جميع السكان الامتثال لمبادئ توجيهية معينة.. هناك طريقتان رئيسيتان لتحقيق هذا الامتثال، إحدى الطرق هي أن تراقب الحكومة الناس، وتعاقب أولئك الذين يخالفون القواعد. اليوم، ولأول مرة في تاريخ البشرية، تتيح التكنولوجيا مراقبة الجميع طوال الوقت. قبل خمسين عاماً، لم يكن باستطاعة الـ KGB متابعة 240 مليون مواطن سوفيتي على مدار 24 ساعة، ولا يمكن لـ KGB أن تأمل في معالجة جميع المعلومات التي تم جمعها بشكل فعال. اعتمدت وكالة المخابرات السوفياتية على عملاء ومحللين بشريين، ولم تستطع قط تعيين وكيل بشري لمتابعة كل مواطن. ولكن يمكن للحكومات الآن أن تعتمد على أجهزة استشعار في كل مكان وخوارزميات قوية بدلاً من الأشباح الآدمية”.
يوفال نوح هراري يكشف عن معلومات، قد لايتسنى للقارئ المتابع الكشف عنها، ففي معركتها ضد وباء الفيروس التاجي، استخدمت عدة حكومات بالفعل أدوات مراقبة جديدة. أبرز حالة هو ما حدث في الصين.
ـ ما الذي حدث في الصين؟
ـ لقد تمت مراقبة الهواتف الذكية للمواطنين عن كثب، وتم تشغيل مئات الملايين من كاميرات التعرف على الوجه، وإلزام الأشخاص بفحص درجة حرارة أجسادهم وحالتهم الطبية والإبلاغ عنها، لا يمكن للسلطات الصينية أن تحدد بسرعة حاملي الفيروس التاجي المشتبه بهم فحسب، بل أيضاً تتبع تحركاتهم والتعرف على جميع الأشخاص الذين يتصلون بهم. كما تحذر مجموعة من تطبيقات الهاتف المحمول المواطنين من التقرب إلى المرضى المصابين.
ـ لم يقتصر هذا النوع من التكنولوجيا على شرق آسيا. أذ أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو طلب من وكالة الأمن الإسرائيلية بنشر تكنولوجيا المراقبة المخصصة عادة لمحاربة الإرهابيين لتعقب مرضى الفيروس التاجي كورونا. عندما رفضت اللجنة الفرعية البرلمانية المعنية الموافقة على الإجراء، أصدر نتنياهو “قانون الطوارئ”.
ما يحدث ليس جديدًا كليًا.. الجديد فيه هو التقدّم الهائل في تقنياته، سيوصلنا هراري إلى هذا الاستخلاص فـ “قد تجادل بأنه لا يوجد شيء جديد في كل هذا. في السنوات الأخيرة، استخدمت كل من الحكومات والشركات تقنيات أكثر تعقيداً من أي وقت مضى لتتبع ومراقبة ومعالجة الناس”.
إذن ما الذي يحدث؟
ـ مايحدث هو تغير في إحداثيات الغد، ذلك أن هذا الوباء “قد يمثل فاصلاً هاماً في تاريخ المراقبة. ليس فقط لأنه سيسهم في قبول نشر أدوات المراقبة الجماعية في البلدان التي رفضتها حتى الآن، ولكن أكثر من ذلك لأنه يشير إلى انتقال كبير في نوعية المراقبة.. إنه انتقالها من “فوق الجلد” إلى “تحت الجلد””.
ـ ما هي الأمثلة التي يسوقها؟
ـ مثلاً، عندما تلمس بإصبعك شاشة هاتفك الذكي وتنقر على رابط معين، أرادت السلطات منك أن تنقر عليه، ولكن مع الإجراءات ضد الفيروس التاجي، يتحول الاهتمام إلى جهة أخرى، فالسلطات تريد الآن معرفة درجة حرارة إصبعك وضغط الدم تحت الجلد.
هراري سيشحن قارئه بالخوف، الخوف من تلك العين اللامرئية التي تجعل من الإنسان كائنًا مرئيًا لعدساتها.. ستجعله كائنًا تحت سطوة رقابتها، وستلزمه بالخضوع لرقابتها، بل ستلزمه بشكرها على أنه تحت تلك الرقابة فـ :
إحدى المشاكل التي نواجهها حول موقفنا من المراقبة هي أنه لا أحد منا يعرف بالضبط كيف يتم مراقبتنا، وما قد ستجلبه لنا السنوات القادمة. إن تكنولوجيا المراقبة تتطور بسرعة فائقة، وما بدا أنه خيال علمي قبل 10 سنوات أصبح أخباراً قديمة هذه الأيام. كتجربة فكرية، لو افترضنا أن حكومة افتراضية تطالب بأن يرتدي كل مواطن سواراً بيولوجياً يراقب درجة حرارة الجسم ومعدل ضربات القلب على مدار 24 ساعة في اليوم. يتم تجميع البيانات الناتجة وتحليلها بواسطة الخوارزميات الحكومية. ستعرف الخوارزميات أنك مريض حتى قبل أن تعرف أنت، وستعرف أيضاً أين كنت، ومن قابلت. يمكن تقصير سلاسل العدوى بشكل كبير، وحتى قطعها تماماً. يمكن القول إن مثل هذا النظام يمكن أن يوقف الوباء في آثاره في غضون أيام. هذا الأمر يبدو رائعاً، أليس كذلك؟
يوفال نوح هراري، يمارس أقصى التوقعات، توقعات تشير إلى أن عالم الغد، سيغدو عالمًا تحت سطوة المراقبة، مراقبة لن تسمح لمواطنيه بأن يخرجوا من إساره.. عالم يحصي أنفاسهم، وتحت ما يمكن تسميته بـ :
ـ النظام الشرعي.
نعم، وفق هراري، سيكون العالم تحت وطأة نظام مراقبة مرعب. إذا كنت تعلم، على سبيل المثال، أنني نقرت على رابط Fox News بدلاً من رابط CNN، يمكن أن يعلمك شيئاً عن آرائي السياسية وربما حتى شخصيتي. ولكن إذا تمكنت من مراقبة ما يحدث لدرجة حرارة جسدي وضغط الدم ومعدل ضربات القلب أثناء مشاهدة مقطع الفيديو، يمكنك معرفة ما يجعلني أضحك، وما الذي يجعلني أبكي، وما يجعلني غاضباً حقاً.
من المهم أن نتذكر أن الغضب والفرح والملل والحب هي ظواهر بيولوجية مثل الحمى والسعال. ويمكن للتكنولوجيا نفسها التي تحدد السعال أن تحدد الضحكات أيضاً.
سيكون ذلك حال أن تبدأ الشركات والحكومات في جمع بياناتنا البيومترية بشكل جماعي، فيمكنهم التعرف علينا بشكل أفضل بكثير مما نعرف أنفسنا، ومن ثم لا يمكنهم فقط التنبؤ بمشاعرنا ولكن أيضاً التلاعب بمشاعرنا وبيعنا أي شيء يريدونه – سواء كان ذلك منتجاً تجارياً أو سياسياً. من شأن المراقبة البيومترية أن تجعل أساليب اختراق بيانات Cambridge Analytica تبدو وكأنها شيء من العصر الحجري. تخيل كوريا الشمالية في عام 2030، عندما يضطر كل مواطن إلى ارتداء سوار البيومترية على مدار 24 ساعة في اليوم. إذا استمعت إلى خطاب القائد العظيم كم جونغ أون والتقط السوار علامات الغضب الواضحة، فقد انتهيت.
• الطوارئ لن تكون طارئة:
يمكنك، بالطبع، أن تجعل قضية المراقبة البيومترية بمثابة إجراء مؤقت يتم اتخاذه أثناء حالة الطوارئ، غير أن حالة الطوارئ لابد وأن تزول بزوال مبرراتها، ولكن:
ـ هل ستزول معها قضية المراقبة البيومترية؟
هناك دائماً حالة طوارئ جديدة تكمن في الأفق.. هذا مايقوله هراري، ويسوق مثالًا:
ـ أعلنت إسرائيل، حالة الطوارئ خلال حرب الاستقلال عام 1948، والتي بررت مجموعة من الإجراءات المؤقتة من الرقابة على الصحافة ومصادرة الأراضي إلى اللوائح الخاصة بصنع الحلوى (الرجل لايمزح). لقد تم كسب حرب الاستقلال منذ فترة طويلة، لكن إسرائيل لم تعلن أبداً انتهاء حالة الطوارئ، وفشلت في إلغاء العديد من الإجراءات “المؤقتة” لعام 1948 (تم إلغاء مرسوم بودنغ الطارئ في عام 2011).
حتى عندما تنخفض الإصابة بالفيروس التاجي إلى الصفر، يمكن لبعض الحكومات المتعطشة للبيانات أن تجادل بأنها بحاجة إلى إبقاء أنظمة المراقبة البيومترية في مكانها لأنها تخشى حدوث موجة ثانية من الفيروس التاجي، أو لأن هناك سلالة جديدة من فيروس إيبولا تتطور في وسط أفريقيا، أو لأن . . . انت وجدت الفكرة. كانت هناك معركة كبيرة تدور رحاها في السنوات الأخيرة حول خصوصيتنا. يمكن أن تكون أزمة الفيروس التاجي نقطة التحول في المعركة. فعندما يُتاح للأشخاص الاختيار بين الخصوصية والصحة، فإنهم عادة ما يختارون الصحة.
إن مطالبة الناس بالاختيار بين الخصوصية والصحة هو في الواقع أصل المشكلة. لأن هذا خيار زائف. ينبغي لنا أن نتمتع بالخصوصية والصحة. يمكننا أن نختار حماية صحتنا ووقف وباء الفيروس التاجي ليس عن طريق إنشاء أنظمة مراقبة استبدادية، ولكن عن طريق تمكين المواطنين. في الأسابيع الأخيرة، نظمت كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة بعض أنجح الجهود المبذولة لاحتواء وباء الفيروس التاجي. بالرغم من أن هذه البلدان قد استخدمت بعض تطبيقات التتبع، إلا أنها اعتمدت بشكل أكبر على اختبارات مكثفة، وعلى تقارير صادقة، وعلى التعاون الراغب من جمهور مطلع.
المراقبة المركزية والعقوبات القاسية ليست الطريقة الوحيدة لجعل الناس يمتثلون للإرشادات المفيدة.
ـ إذن ما الوسيلة لحفظ صحة الناس دون تتبعهم؟
ـ يجبنا هراري:
عندما يتم إخبار الناس بالحقائق العلمية، وعندما يثق الناس في السلطات العامة لإخبارهم بهذه الحقائق، يمكن للمواطنين أن يفعلوا الشيء الصحيح حتى بدون أن يراقب الأخ الأكبر أكتافهم. عادة ما يكون السكان الذين لديهم دوافع ذاتية وأن يكونوا مستنيرين أكثر قوة وفعالية بكثير من السكان الخاضعين للشرطة والجاهلين.