الإغلاق الكبير – الحلقة 5
كورونا .. الإغلاق الكبير
ـ البوصلة / شرق المتوسط
•ما الذي سيتقى للحريات ما بعد كورونا؟
جاك أتالي، وهو المنظر الفرنسي والكاتب الاقتصادي والاجتماعي الفرنسي، ومستشار الرئيس فرانسوا ميتران من 1981 حتى 1991 وهو أول من ترأس البنك الاوروپي لاعادة البناء والتنمية في 1991-1993.يأخذنا إلى مسار آخر.. إنه ينبهنا أن كل وباء كبير عرفته البشرية خلال الألف سنة الأخيرة، أفضى إلى تغيير جذري في نمط التنظيم السياسي للمجتمعات. فالطاعون الأسود الذي عرفته أوروبا في القرن الرابع عشر أدى إلى الحد من سلطة الكنيسة في الشأن السياسي، كما انبثق عنه نشأة نظام الشرطة كوسيلة ناجعة لحماية وضبط حياة الناس، فأخذ الشرطي مكان الكاهن، قبل أن يأخذ الطبيب، منذ القرن الثامن عشر، محل الشرطي. (4)*
ما يخلص إليه أتالي هو أن وباء الكورونا المستجد، الذي يعرفه العالم اليوم بفظاعة، قد يفضي إلى نموذج جديد من السلطة ومنظومة قيم جديدة.
وفق أتالي فإن التحدي الكبير المطروح اليوم، كما يراه، يتعلق بمستقبل نسق السلطة المؤسس على حماية الحقوق الفردية بمرتكزيه المحورين، اللذين هما الديمقراطية التمثيلية التعددية والسوق الحرة.
ففي بداية الأزمة الصحية الراهنة، ظهرت في الصحف الغربية عدة تحليلات، شككت في قدرة الصين على مجابهة الوباء المنتشر نتيجة لغياب الشفافية المتبعة في المجتمعات الديمقراطية المفتوحة، وقد برز من الجلي اليوم، أن عموم الدول الغربية اعتمدت نفس المسلك الصيني في الحجر الكلي والرقابة الشاملة.
ومن هنا ولد التساؤل المشروع عن إمكانية استمرارية هذه الإجراءات المقيِّدة لحركة وحرية السكان بعد نهاية الأزمة، ولو في حدود وصياغات مغايرة؟ وهل سيستمر خط الرجوع القوي للدولة المركزية التي انتكست اليوم إلى دورها الأصلي، أي إعالة السكان وتوزيع الغذاء عليهم، ولو على حساب قوانين الحركية الاقتصادية المعولمة؟
يرى أتالي أن مستقبل النظام السياسي في العالم سيتمحور حول نموذجين متمايزين:
ـ نموذج الرقابة والتحكم الكلي بالاستناد إلى الذكاء الاصطناعي والرقابة التكنولوجية الناجعة، وهو النموذج الصيني الذي ثبت تفوقه في معالجة أزمة كورونا.
ـ نموذج تضامني تقوم فيه الشرعية على التكافل والتعاضد وتوفير الخدمات الأساسية للسكان، ويرتكز فيه النشاط الاقتصادي على أركان أربعة هي: الصحة والغذاء والتعليم والبيئة.
ـ وبعدها؟
ـ هل يكون النموذج الاقتصادي الكمي، الذي اقتحم منذ العصور الحديثة، مفهوم السياسة من حيث هي تدبير لعالم إنساني مشترك، هو الذي دخل في طور التأزم والانحسار؟
المعلوم أن هذا النموذج قام على محددات أساسية هي:
ـ التطبيق الرياضي على الظواهر الطبيعية الذي هو أساس ما أطلق عليه هايدغر الرؤية التقنية للعالم، وبناء الفاعلية التبادلية بين البشر على الرغبات الاستهلاكية غير المحدودة، بدل الحاجيات الأساسية الضرورية.
ـ ومحو الحاجز الدلالي والمعياري بين الثروات المادية والخيرات البشرية التي لا تخضع لمنطق المنافسة والنجاعة والتبادل.
ـ وإذا كان العديد من الاقتصاديين والفلاسفة الاجتماعيين قد نبّهوا منذ القرن الـ19 إلى خطورة هذا النموذج بخصوص اعتبارات العدالة الاجتماعية والقيم الإنسانية الجوهرية، فإن الجدل اشتد في السنوات الأخيرة، إثر عجز الحكومات العالمية عن التعامل مع أزمات ثلاث متداخلة ومتزامنة هي: الأزمة المالية التي كادت تعصف بالاقتصاد العالمي عام 2008، والأزمة الصحية الناتجة عن الموجات الفيروسية الجديدة، والأزمة الإيكولوجية الناتجة عن سوء استخدام الموارد الطبيعية وتأثير النمط الاستهلاكي التقني على البيئة الطبيعية.
ما تلتقي فيه الأزمات الثلاث هو اعتباران أساسيان، هما من جهة ما دعاه الفيلسوف «آلان باديو» بالصنمية التقنية؛ أي تحويل التقنية إلى مقدس يُسند له تدبير العالم، دون توجيه أو تدخل، طلباً للنجاعة، ومن جهة أخرى إخضاع نظم التدبير السياسي والاجتماعي لمنطق التسيير الاقتصادي والمالي، الذي هو في نهاية المطاف امتداد للمقاربة التقنية الأداتية.
•إدغار موران.. عشرة أفكار ..كورونا و الغيستابو :
وحده شخص من عيار إدغار موران، قد يفصح عن مواقف جريئة، فخلال حديث خاص له مع جاك أتالي، أدلى إدغار موران لجاك أتاليبالأفكار التالية :
ـ ألم تلاحظ بأن فيروس كورونا، يشبه الغستابو؟ لا نراه قط.. نعلم أنه يتسكع على مقربة منا.. نأخذ مختلف الاحتياطات الممكنة بهدف تحاشيه، ثم سرعان، ما يباغتنا ! لقدداهم المكان، فنتوارى هاربين…صاحبني الحظ كثيرًاخلال ذلك الزمان”.
إدغار موران، يقارن ما بين عالم الغستابو، والعالم الراهن.. ما هي الملاحظات التي أبداها؟
•لقد وضع عشر ملاحظات:
-1 يعيش الإنسان دائما في إطار الجزع من أن يمسك به عدو و يهزمه، في نهاية المطاف:الموت.
2 ـ يعمل أحيانا هذا العدو بكيفية متكتمة، لاسيما خلال لحظات انعدام الحروب،الأوبئة، أو التهديدات الإرهابية.خلال تلك الفترات، ينجح المجتمع في إخفائه ونسيانه وإنكاره، لحظتها يعيش المجتمع مبتهجا ومتسليا ناسيا أمواته، لا يفكر أبدا في زيارة المقابر، و لايتكلم قط عن الأموات، بحيث يركز اهتمامه على الجديد، ثم ينساه أيضا حينما يغدو قديمًا، يتطلع أساسا نحو التدفق، غير آبه بالذخيرة، وعما قريب سيختفي بدوره خلف ماتبقى من التدفق حينما يتحول إلى مجرد نفاية.
3ـ ثم أحيانا، يستحيل عدم إدراك وجود هذا الخطر،إما لأن العدو ماثل هنا، كما الحال خلال زمن الحرب العالمية الثانية، أو لأن تهديدًا إرهابيًا يتجول، أو أن وباء قد تفشى، فيذكرنا الوضع ببداهةموتنا.
4 ـ ما إن تمر فترة الخطر، ننسى ثانية ولا نتهيأ أبدا لعودته، ولا أيضا حتمية رحيلنا أو مجرد بذل أقصى مجهوداتنا من أجل تأخيره، لكننا بكل بساطة نستمر في تجاهل أمره.
5ـ لكي نظل ضمن حدود ما يجري حالياًفقد كان المآل متوقعًا، وتنبأ به كثيرون منذ سنوات.
6 ـ كان بوسعنا الاستعداد بشكل أفضل، لو راكمنا أساسًا المعدات الطبية اللازمة، وكذا وسائل الحماية الفردية، ثم خاصة بشرًا مؤهلين مع التفكير بكيفية مختلفة في وسائل النقل، تنظيم المدن، منظومة العمل، وأشياء أخرى كثيرة.
7ـستنقضي فترة هذا الوباء بعد أن تخلف آثارًا،لازالت معالمها بصدد التشكل، وفق متواليات مشهد فظيع، سيقضي على حياة عدد كبير من الناس، مثلما ستترتب عنه أزمة اقتصادية أكثر سوءا مقارنة مع التي عرفنها منذ سنة 1945 .
8ـ الأسواق التي استمرت في إطار انتشاء السنوات العشر الأخيرة، لم تتوقع أزمة اقتصادية من هذا القبيل، سياق يحتم على البنوك المركزية، ضرورة التدخل بكيفية حقًا وازنةأكثر مما فعلته لغاية الوقت الحالي، بهدف إنقاذ ما يمكنه أن يشكل ادخارًا للأشخاص، يلزمهم لذلك، ضمان استمرارية النظام المالي، في خضم استنكار الشعوبالذين يوجهون إليه تهمة نجدته مرة أخرى، قبل الجميع، أولئك الذين يوظفون ادخار الأفراد من أجل تسليط الضوء على منتوجات وهمية، تمثل فقط أصول منافع واقعية بالنسبة لبعضالمتنفذين .
9ـ سنهتدي على الأقل أخيرا مع هذه الأزمة، كي نصبح ناضجين، بمعنى متأهبين جدا ونعيد التفكير في نظام تطورنا؛ بحيث ننزع نحو التحلي بصفات الزهد، والصفاء، والاستنارة، والتسامح.
10 ـ أن نطرح باستمرار على أنفسنا سؤالا يتعلق بمعرفة مدى إنجازنا، فرديًا وجماعيًا، أفضل استثمار للزمن القصير المتوفر أمامنا للاستمرار على وجه البسيطة كي يعيش أبناؤنا أفضل منا، مثلما كتب خلال الحرب العالمية الثانية، العديد من المقاومين، في آخر رسالة إلى أفراد أسرهم، قبل إعدامهم رميا بالرصاص.
الأفكار العشرة التي طرحها إدغار موران تستوجب السؤال، بل تدعو إلى سؤال:
ـ ماهو مستقبل العالم ما بعد كورونا؟ هل ستبقى الحياة كما كانت عليه ما قبله؟
والطبيعي أن نتساءل هنا عن معنى (الحياة) التي نقصدها.
ـنقصد على وجهة التحديد، إدارة الحياة وهي إدارة بلا شك مر تبطة بإدارة المجتمعات وبالاقتصاديات أشد الارتباط، كما بالعولمة، وبمنتجات ما بعدها.
•سلافوي جيجيك، عن كورونا أيضاً:
في ذروة الازمة، وفيما كان العالم منشغلاً بالبحث عن عقار مضاد للفايروس، وجد سلافوي جيجيك الفيلسوف السلوفيني أن “الشيوعية هي الحل”، أكثر من ذلكوجد نفسه “راغباً بالإصابة بالفيروس”، ودون ريب فهي رغبة مثيرة للتساؤل، غير أنجيجيك يسارع لتقديم الأسباب:”سأتخلّص وقتها على الأقل من حالة الارتياب المنهكة التي أعيشها”.. ذلك ماكتبه تحت عنوان “بربرية بوجه إنساني”، وقد ترجم مقاله هذا لمجموعة من اللغات من بينها اللغة العربية وهو متوفر على محرك البحث google
بعد ذلك يصف جيجيك وقائع أيامه فعلاقته بالنوم ” تشكّل هي الأخرى علامة واضحة على قلقي المتزايد. قبل حوالي أسبوع، كنت انتظر المساء بلهفة: وأخيراً! يمكنني الهرب إلى عالم الأحلام وترك كل مخاوف حياتي اليومية خلفي. والآن، على العكس تماماً، أخشى النوم لأن الكوابيس تلاحقني ليلاً وتوقظني مذعوراً، كوابيس عن الواقع الذي ينتظرني”.
•عن أي واقع يتكلم؟
نسمع كثيراً هذه الأيام عن حاجتنا الماسة لتغيّرات اجتماعية راديكالية، في حال أردنا حقاً التعامل مع تبعات الوباء الحالي، إلا أن تغييرات جذرية تحدث بالفعل. يواجهنا فيروس “كورونا” اليوم بما اعتبرناه مستحيلاً: لم نكن لنتخيل أبداً هذا الانقلاب الذي شهدته حياتنا اليومية.
يتابع جيجيك:”توقف العالم الذي عرفناه عن الدوران، بلدان بأكملها مغلقة بالكامل، وكثيرون منّا محتجزون في منازلهم (عدا عن أولئك المحرومين حتى من هذا الحد الأدنى من الوقاية). نجد أنفسنا في مواجهة مستقبل غامض، وحتى في حال نجاة معظمنا، ستبقى الأزمة الاقتصادية الهائلة تلوح في الأفق”.
•ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة لجيجيك؟
كل هذا يعني أن رد فعلنا يجب أن يحقق المستحيل هو الآخر: ما يبدو غير ممكن ضمن إحداثيات النظام العالمي الحالي.
المستحيل قد حدث بالفعل، وعالمنا توقف عن الدوران، والمستحيل هو بالضبط ماعلينا تحقيقه لتفادي الأسوأ.
ـما هو الأسوأ؟
لا يعتقد جيجيك أن التهديد الأكبر يتمثل بانتكاسة إلى بربرية صريحة أو صراع وحشي على البقاءـ بما يرافقه من اضطرابات عامة، وإعدامات ميدانية مذعورة، إلخ (بالرغم من امكانية حصول شيء شبيه في حال انهيار النظام الصحي وغيره من الخدمات العامة). ما يخشاه أكثر من الوحشية الصريحة هو البربرية بوجه إنساني: إجراءات قاسية لحفظ البقاء، تُطبّق بشيء من الأسف وحتى التعاطف، ولكنها تستمد شرعيتها من آراء الخبراء.
وفق جيجيك يمكن لمراقب يقظ أن يلحظ بسهولة تبدّل نبرة من هم في السلطة أثناء مخاطبتهم لنا: لا يحاولون فقط إظهار الهدوء والثقة، وإنما يتفوّهون باستمرار بتنبؤات مرعبة: “من الوارد استمرار أزمة الوباء لعامين، وسيصيب الفيروس في المحصلة من ٦٠ إلى ٧٠ بالمئة من سكان الكوكب، حاصداً ملايين الأرواح”.
باختصار، رسالتهم الحقيقية حسب قراءة جيجيكهي وجوب بتر وتقليص الفرضية الأساسية لأخلاقنا الاجتماعية: رعاية المسنين والضعفاء (أعلنت إيطاليا فعلاً عن إمكانية حرمان المصابين بأمراض عضال، والمسنين الذين تجاوزوا الثمانين، من الرعاية الصحية في حال تفاقم الوضع، أي سيُتركون ببساطة للموت).
يمكننا ملاحظة كيف ينتهك قبول منطق “البقاء للأقوى” المذكور أبسط مبادئ الأخلاق العسكرية، والتي تنصّ، بعد المعركة، على وجوب معالجة المصابين بجروح خطيرة أولاً، حتى لو كانت فرص نجاتهم ضئيلة (إلا أن نظرة أقرب تقلّص المفاجأة، فلطالما تصرّفت المستشفيات بذات الطريقة مع مرضى السرطان).
لتجنّب سوء الفهم، يقول جيجيك:” أنا واقعي تماماً هنا، يجب برأيي حتى تأمين أدوية تساعد على موتٍ دون ألم للمرضى الميؤوس من شفائهم، لتجنيبهم المعاناة غير الضرورية. ولكن عوضاً عن التوفير والاقتصاد، يجب أن يكون هدفنا الأول تقديم المساعدة غير المشروطة للمحتاجين لضمان نجاتهم، وبغض النظر عن التكاليف “
ومن هنا سيختلف مع فلاسفة آخرين ومن بينهمجورجيو أغامبين، الذي يرى في الأزمة الجارية علامةً على أن: «مجتمعنا لم يعد يؤمن إلا بالحياة العارية.. وبات جلياً أن الإيطاليين، تفادياً لإلتقاط العدوى، مستعدون عملياً للتضحية بكل شيء: ظروف الحياة الطبيعية، والعلاقات الاجتماعية والعمل، وحتى الصداقات والعواطف والقناعات الدينية والسياسية. ليست الحياة العارية، والخوف من فقدانها ـ أمراً يوحّد البشر ويجمعهم، بل أمراً يفرّق بينهم ويصيبهم بالعمى» (5)* .
•جورجيو أغامبين:
في ما يشبه البيان قال الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين إن إجراءات الطوارئ التي اتخذتها الحكومات في سياق مكافحة تفشي جائحة كورونا غير عقلانية وغير مبررة، مستندا إلى بيان المجلس القومي الإيطالي للبحوث الذي اعتبر أن أعراض الجائحة تكون خفيفة أو معتدلة لأغلب الحالات.
لقد تساءل أغامبين متعجبًا “لماذا تخلق السلطات الحكومية ووسائل الإعلام مناخا من الذعر، يتسبب في حالة استثناء حقيقية تتضمن تقييد الحركة وتعليق الحياة اليومية والعمل في مناطق بأكملها؟”،
كان سؤاله ذاك متضمنًا الإجابة، فقد اعتبر أن تلك الحالة تؤدي لفرض “عسكرة حقيقية” على تلك المناطق، في صيغة وصفها الفيلسوف الإيطالي بـ”الغامضة وغير المحددة”، متنبئا بتعميم حالة الاستثناء على كافة المناطق.
واستعرض أغامبين “القيود الحكومية على الحرية” التي أقرتها السلطات (الإيطالية)، معتبرا أنها غير متناسبة مع التهديد الذي تسببه “عدوى تشبه الإنفلونزا” ولا تختلف عن الفيروسات المعدية التي تصيبنا كل عام.
وختم الفيلسوف الإيطالي بيانه بالقول إن السلطات استنفدت مبرر الإرهاب لاتخاذ تدابير استثنائية، ولهذا فإن “اختراع وباء يمنحها الذريعة المثالية لتعميم إجراءاتها التي تتجاوز كل الحدود”، مشيرا إلى حالة الخوف والفزع الجماعي وما اعتبره “قبولا بتقييد الحكومات للحرية تحت دعاوى السلامة”.