اللبنانيون يبحثون عن الدم العالق على قميص عثمان
2005 كان اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ولم يكن اغتيال الرجل هو السبب في “انتفاضة الاستقلال”، بل كان كبسولة المتفجّر في وجه الاستخبارات السورية وقد أحالت لبنان، كل لبنان إلى سجن يمر عبر “عنجر”.
كان الاغتيال يعني أولاّ شد العصب السني، وثانيًا شد عصب الوطنية اللبنانية، فكان من نتائجهما اصطفاف 14 آذار وقد تمركز حول شعار “انسحاب الجيش السوري من لبنان”.
الهدف مركزي وواضح ولا يحتمل لا التباس ولا تأويل.
انسحبت القوات السورية من لبنان، غير أنها لم تسحب أزلامها ولا متفجراتها، وليس ميشال سماحة وحده من نقل الديناميت الى لبنان لينكشف أمره، فالديناميت مقيم في مخازن “حزب الله”، وفي أقبية حلفاء للنظام السوري، غير أن “مركزية الشعار”، و”مركزية الخصم” سمحت بانتصار قوى 14 آذار وقد أطاحت برستم غزالة ودولة غازي كنعان.
ماسبق سيعني أن الدم على “ثوب عثمان” لم يكن قد توزع على القبائل، فالخنجر معروف والقاتل كذلك، وبالنتيجة كان الاصطفاف اللبناني الذي “انتصر”.
“دم عثمان” اليوم موزع بين القبائل، فالفساد قد طال الطبقة السياسية برمتها، والجوع طال ناس لبنان مجتمعين، ما يعني أن اللبنانيين اليوم ليسوا بمواجهة مسألة “استقلال” بقدر ماهم بمواجهة استحقاقات “ثورة” الرغيف، والخصم موزع بدءًا من المصرف مرورًا بالبرلمان وصولاً للعنبر 12 في مرفأ بيروت.
سيعني هذا فيما يعنيه غياب “الخصم” المشخّص، وبالتالي غياب “وحدة الشارع”، و”وحدة القوى”، ووحدة الاصطفاف”، وبالنتيجة فإن شعار “كلن يعني كلن”، قد غيّب تحديد الخصم، رغم وضوح الخصم ومكانه واسمه وعقيدته وسلاحة وسطوته.
الخصم هو باختصار من :
ـ غيّب الدولة.
وتغيب الدولة حين يكون في الدولة “دولة داخل الدولة”، ولا شك بأن هذه الصيغة ستكبل القضاء، وتكبّل المؤسسات، وتطلق العصابة بديلاً عن المؤسسة، لتكون ممالك الطوائف بديلاً عن الدولة المدنية التي تعني أول ما تعنيه “المواطنة”.
في هذه المعمعة وهذا الاضطراب، يبحث لبنان عن “مرجعية”، فثوار الشارع وقد هتفوا بـ “كلن يعني كلن”، لم ينجزوا “وحدة الشارع”، ليكونوا “كلن”، وهاهم ينقسمون ما بين الأحزاب والطوائف ومؤسسات المجتمع المدني والسفارات، وبالنتيجة فانتفاضتهم لم تعدو أن تكون:
ـ انتفاضة غاضبين.
غاضبون، يهتفون، ثم يعودون إلى منازلهم بعد ألف بيان وبيان وما من بيان يجمعهم على “خريطة طريق”، فيما االطبقة السياسية تثابر على نهب ماتبقى من البلاد، والغرف السوداء تشتغل لسحب البساط من تحت أقدام المتظاهرين، والنتيجة:
ـ صفر في محاربة الفساد.
ـ صفر في استعادة المال المنهوب.
ـ صفر في نتائج تحقيقات انفجار مرفأ بيروت.
ـ صفر في نتائج التحقيقات المتصلة بالاغتيالات.
ومع كل صفر سلسلة أصفار، والحلقة مفرغة في كل هذا الفراغ.
من هذا الفراغ جاءت مباردة البطريك مار بشارة الراعي، باعتبارها المبادرة التي تعنى بأساس الموضوع:
ـ استعادة الدولة.
استعادة الدولة تعني استعادة القضاء، واستعادة الاستقلال، وتحديد اليد التي “قتلت عثمان” كي لايكون دمه موزع على القبائل فيضيع، وبلا شك ستكون المبادرة الأعلى تكلفة وصعوبة من بين المبادرات التي تعني “مواجهة مباشرة مع الساطور”، وهو أولاً “حزب الله”، وتوابع “حزب الله” وميشال عون أبرز توابعه مع تابعه الوزير / الصهر جبران باسيل.
السؤال المحوري الآن:
ـ هل هناك فرصة حقيقية لتحويل الطرح الذي أطلقه البطريرك مار بشارة الراعي واقعاً على الأرض، أم سيبقى هذا الطرح مجرد «موقف للتاريخ»؟
المتوقع أن توحد مبادرة الراعي الصف الأوسع من المسيحيين، وهذا ما يفهمه “حزب الله” وقد ردّ على المبادرة بالتجاهل والتأويل، فـ “المواجهة مع الصرح، اليوم، تعني المواجهة مع المسيحيين عموماً”. وعمومًا هذه تعني فيما تعنيه “حتى أنصار «التيار الوطني الحرّ» وهم يتناغمون مع مناخات بكركي في الحياد واللامركزية، بل كانوا دائماً أشدّ المتحمسين لها، وكأنّهم يتفهَّمون أنّ تموضع قيادتهم المعارض لهذا الطرح تفرضه ضرورات سياسية لكنه ليس أصيلاً”.
والسؤال الثاني كان:
ـ هل الظروف ملائمة لانتصار مبادرة الراعي؟
والسؤال يستتبع:
ـ هل سيتمكن فريقٌ لا يملك إلّا الهالة المعنوية هو بكركي، على رأس مجموعة منقسمة، هي المسيحيون، وفي بلد ضعيف، من فرض خيارٍ كبير بحجم المؤتمر الدولي والحياد، وسط تحدّيات واستحقاقات تعصف بالشرق الأوسط؟
ويستتبع كذلك:
ـ هل يطمئنّ الراعي إلى وجود ضمان دولي بأنّ طرحه يمتلك حظوظ الحياة؟
كل المتوفر من المعلومات أن مباردة الراعي لاتستند إلى ضمان دولي سوى دعمٌ دولي واحد يمكن للبطريرك أن يرتكز إليه في شكل مطلق، هو دعم الفاتيكان، والتغطية التي يوفِّرها الفاتيكان يمكن أن تشكّل منطلقاً دولياً مناسباً للمبادرة.
وسيضاف الى الفاتيكان ولو بمستوى أقل قيمة وتأثيرًا أنّ فرنسا أبلغت الى بكركي مراراً، وبوضوح، أنّها تدعم طرح الحياد. وأما موقف الإدارة الأميركية الجديدة تجاه لبنان فما زال قيد التبلور، لأنّ واشنطن لم تنطلق أساساً بمبادراتها تجاه الشرق الأوسط. لكن الالتفاف الذي حظي به الصرح من قوى وطنية عدّة، ومن قوى انتفاضة 17 تشرين الأول، يثير انتباه الأميركيين والجهات الدولية الفاعلة.
بالنتيجة ما من عصفور بيد البطريرك سوى “الفاتيكان”، واحتمالات واسعة لاصطفافات أكثر وضوحًا في الشارع، هو الاصطفاف الذي سيوفره الرصيد الشعبي والسياسي للبطريرك، وهو رصيد ينمو كلما تنامى الفشل والانهيار في إدارة الطبقة السياسية للبلاد، وتعثُّر تشكيل الحكومة هو أحد مظاهر الدولة الفاشلة. وقد يضغط «حزب الله» لتسريع قيام حكومة «تنفِّس» طرح البطريرك، لكنها ستكون حكومة تكريس الانهيار. وسيملأ الفراغ انتظار التسويات التي ستأتي من المفاوضات الأميركية- الإيرانية وسواها.
صحيفة لبنانية وهي صحيفة الجمهورية تطرح سؤالاً على أحد النشطاء:”هل طرح البطريرك واقعي”؟ فأجاب: “البطريرك مار نصرالله بطرس صفير أطلق نداءه في العام 2000. وفي ذلك الوقت، اعتبر كثيرون أنّه لن يكون سوى صرخة ضائعة. لكن السوريين خرجوا فعلاً من لبنان بعد 5 سنوات. هل هي مصادفة التزامن؟ بالتأكيد لا”.
لقد كان نداء صفير جزءاً من حركة الربيع الآتي في العام 2005، وقد تولّت بكركي آنذاك تظهيرها، أولاً لأنّ هذا هو موقعها الطبيعي، وثانياً لأنّ القوى المسيحية (رئيس الجمهورية والغالبية النيابية) كانت أسيرة الخط المعاكس، ولأنّ القوى غير المسيحية لم تكن مهيأة للمجاهرة».
اليوم، لا عنجر في لبنان يوحد اللبنانيين بمواجهته، ولكنه الرغيف، ويبقى السؤال المفتوح مع الاجابات القلقة:
ـ هل سيتمكن بكركي من مواجهة “حزب الله”.
بمعنى آخر:
ـ هل سينتصر رغيف الناس على ساطور “حزب الله”؟