في دمشق، الأمهات يبحثن عن حقيبة مدرسية، وكذلك في الخرطوم
التحقيق مخيف، هو كذلك لمن لايعيش في سوريا أو السودان، وسواهما من بلدان عربية تعيش الجحيم، فـ “أبناء الجحيم”، لايمتلكون الوقت الكافي لوصفه، فالوقت كل الوقت للانشواء بنيرانه.
التحقيق الذي نعنيه، هو تحقيق نشرته محطة بي بي سي، أما عنوانه فهو “الحقيبة المدرسية”.
في الخرطوم تتجول نجلاء برفقة ولديها في أحد أسواق مدينة شبه الخالية، ومعها رزمة أموال خصصتها لشراء متطلبات المدرسة، لكن يبدو أن ميزانيتها هذا العام لن تجلب لهما مستلزمات بنوعية جيدة وسعر مناسب، كما كانت تأمل.
أما في دمشق، فمرام تخيط شقوق حقيبة حملتها ابنتها طوال العام الماضي، لتجعلها صالحة للاستخدام مجددا، فسعر الحقيبة المدرسية هذه الأيام يتراوح ما بين 20 ألفا و30 ألف ليرة سورية، بينما يقدّر دخل الموظف الحكومي بنحو 70 ألف ليرة – ما يعني أن راتب موظف بالكاد يكفي لشراء ثلاث حقائب مدرسيّة جديدة.
صحيح أن الحروب والنزاعات في المنطقة تسببت بعدم التحاق أكثر من 14 مليون طفل بالمدارس في الدول العربية، إلا أن منظمة اليونيسف تضيف عاملا آخر تسبب بذلك وهو “الفقر المتفشي” الذي تفاقم خلال وباء كورونا، فتسبب بـ”كارثة” في قطاع التعليم في الدول العربية.
يقول التحقيق أن نجلاء أخذت تفاوض بائعا في إحدى زوايا سوق أم درمان في العاصمة السودانية لتخفيض سعر الحقيبتين اللتين يود ولداها الحصول عليها للموسم الدراسي الجديد؛ فبعد أن دفعت أقساطا عالية جدا للمدارس الخاصة، لم يعد بإمكان العائلة تحمل نفقات إضافية كبيرة لشراء المستلزمات الدراسية، التي بدورها شهدت ارتفاعا قياسيا بالأسعار.
تقول نجلاء: “تضاعفت رسوم المدرسة (الخاصة) من 40 (ألفا) العام الماضي إلى ثمانين هذا العام”.
ورغم أن كلا من نجلاء أحمد وزوجها، عاصم، يحصل على دخل ثابت، هي من عملها في القطاع الحكومي وهو من عمله مع شركة خاصة، إلا أن مجموع دخليهما معا بالكاد يكفي لتأمين ما تتطلبه المدرسة من أقساط ومستلزمات؛ فهذه الأقساط ارتفعت “أكثر من الضعف مقارنة بالسنة الماضية، بينما بقيت الرواتب على حالها وأصبح من الصعب تأمين أقساط مدارس الأولاد”، كما تقول نجلاء.
ومع ذلك يرفض الوالدان إلحاق ولديهما بالمدارس الحكومية بهدف ضمان الحصول على “التعليم الأمثل في صفوف غير مكتظة”، كما يقولان.
يمر السودان كغيره من دول عربية بأزمات اقتصادية، كما يشهد ارتفاعا متسارعا بمعدلات التضخم التي بلغت مستويات قياسية وصلت إلى أكثر من 400 في المئة في شهر تموز/يوليو الفائت، وفقا لبيانات حكومية محلية ودولية.
ومع افتتاح المدارس هذا العام، وجد الأهالي أنفسهم أمام موقف صعب: فهم يرغبون بحصول أبنائهم على التعليم والرعاية الأفضل، ولكن لم يعد بمقدورهم توفير ما يتطلب ذلك من نفقات.
ورغم مجانية التعليم في المدارس الحكومية السودانية، إلا أن عدد الأطفال غير الملتحقين بالمدارس في السودان يعد ضمن أعلى المعدلات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بحسب تقرير لمنظمة اليونيسيف نشر عام 2020؛ فهناك أكثر من ثلاثة ملايين طفل وطفلة لم يلتحقوا بالمدارس في السودان.
ويعود ذلك لعدة أسباب على رأسها النزاعات الدائرة في المنطقة، وتضيف المنظمة عاملا آخر هو عدم القدرة على دفع النفقات اللازمة للمدرسة – الأمر الذي يمنع الأسر الفقيرة من تعليم أطفالها.
وبحسب المنظمة، يؤثر فقر الأسر مباشرة على معدلات التحاق أطفالها بالمدارس؛ فنسبة ترك المدارس بين أطفال العائلات الأكثر فقرا هي سبعة أضعاف نسبة التسرّب عند العائلات الأكثر ثراء. كما أن أكثر من تسعة ملايين طفل تتراوح أعمارهم بين 15 و17 عاما تركوا مقاعد الدراسة لمساعدة عائلاتهم في كسب العيش في الدول العربية.
في سوريا ستكون الصورة أكثر قتامة؛ إذ لم تعد رفاهية الاختيار بين المدارس الخاصة والعامة خيارا متاحا لمعظم العائلات.
اضطر ياسر ومرام، وهما زوجان يعيشان في دمشق، إلى الاستغناء عن المدارس الخاصة هذا العام؛ فلم يعد بإمكانهما تحمّل تكلفة التعليم الخاص بعد أن تدهورت قيمة الليرة السورية بشكل كبير خلال العام الفائت.
وحتى بعد نقل ابنتهما إلى مدرسة حكومية، لم يعد الزوجان قادريَن على توفير جميع متطلبات الدارسة، لذا ستستخدم ابنتهما مستلزمات السنة الفائتة المهترئة، فليس بمقدور العائلة شراء أشياء جديدة، كما تقول مرام.
كل هذا التغيير حدث للعائلة خلال عام واحد فقط. فخلال سنة 2020 وحدها بلغت نسبة التضخم 200 بالمئة مقارنة بعام 2019، وفقا للمكتب المركزي للإحصاء، في حين تذكر مصادر أخرى أن نسبة التضخم الحقيقية أكبر من ذلك. وشهدت قيمة الليرة السورية تدهورا كبيرا حتى أن سعر صرف الدولار في السوق السوداء تجاوز الـ3,000 ليرة سورية.
ورغم أن ياسر يعمل في مجال تركيب العطورات، إلا أنه اضطر للقيام بأعمال أخرى لتوفير ما تحتاجه ابنته للعام الدراسي الجديد، ويقول: “عملت عتالا ودهانا لكسب مال إضافي مع عودة الموسم الدراسي بسبب غلاء السلع والمستلزمات الدراسية”.
وطبعا لم تكن الحقيبة على قائمة المشتريات.
ما يمر به الأهالي في السودان وسوريا يشبه ما يمر به كثيرون في دول عربية أخرى تعاني من أزمات اقتصادية ومعدلات تضخم مرتفعة أطاحت بقدرة الأفراد والعائلات على شراء أبسط المستلزمات الدراسية لأبنائها، فباتت عودة الموسم الدراسي تشكل عبئا على الأهالي الذين يحاولون بشتى الطرق توفير متطلبات المدرسة من حقائب وملابس وقرطاسية وغيرها.
في هذه الأثناء، تستمر مرام في إجراء اتصالات مع أقاربها وأصدقائها محاولة العثور على حقيبة مدرسية جيّدة لم تعد تلزمهم لإعطائها لابنتها – وإلا يبقى خيارها محاولة إصلاح حقيبة ابنتها القديمة.