استباقًا لاغتيال القاضي “بيطار”
منتهى الإسفاف الاعتقاد بـ “تظاهرة سلمية لحزب الله”، فللقمصان السوداء ذاكرتها عند اللبنانيين الذين يعرفون بالتمام والكمال، أن مايحزم به هؤلاء المتظاهرون بطونهم، لابد ويكون أحزمة ناسفة لكل ما يمكن تسميته بـ “السلمي”.. تبدأ التظاهرات بالاستفزاز وتنتهي الى الرصاص، وهكذا يدخل متظاهرو حركة امل وحزب الله المناطق المسيحية وهم يهتفون “شيعة ـ شيعة”، وهو ماحدث في “الطيونة” وقد تداعت الحالة حتى حواف الحرب، وكانت تظاهرة لاتعني سوى “اقتلاع” المحقق طارق بيطار أو “قلعه” على حد تعبير وفيق صفا المسؤول الأمني لحزب الله، وكانت النتائج قتلى وجرحى، ولهيب من الصعب معرفة تداعياته في سكون اللحظة اللبنانية، خصوصًا وأن العنف لم يُخِف القاضي بيطار بحيث يقوم بتقديم استقالته.
هذه ليست المرة الأولى التي تؤدي فيها ردود فعل الشعب ضد “حزب الله” إلى أعمال عنف هذا العام. ففي آب/أغسطس، شهدت بلدة خلدة السنية اشتباكات مسلحة بين رجال قبائل مسلحون وأنصار الميليشيا، في حين استولى قرويون دروز في شويا على شاحنة تحمل منصة صواريخ تابعة لـ “حزب الله” لمنع عناصر الحزب من إطلاق النار على إسرائيل من بلدتهم.
ولكنّ الشارع المسيحي والأحزاب التي تمثّله هي أكثر أهمية لأن بيدها المفتاح الذي يُمكِّن “حزب الله” من الحفاظ على سيطرته على الحكومة أو في نزع مفاتيح الحكومة من يده.
حسن نصر الله كرّس خطابًا امتد لساعتين لطمأنة المسيحيين في لبنان، ولابد أن خطابه كان قد حمل في جزء منه ما يوحي كما لو ان مسيحيي لبنان “أهل ذمة”، أقله بعد استرساله في الكلام عن ترسانته العسكرية “المهيبة” وبالنتيجة كان خطابه يزيد من القلق المسيحي بما انعكس حتى على جماهير الأحزاب المتحالف مع حزب الله من المسيحيين ومن بينها التيار الوطني الحر.
بداية، كان حزب الله قد حاول “اقتلاع” طارق بيطار عبر الحملات الإعلامية والتهديدات الشخصية المباشرة لقاضي التحقيق، غير أنه فشل، وفشله يسلّط الضوء على إمكانات القضاء كمساحة صغيرة لا يستطيع “حزب الله” إخضاعها بسهولة لأجندته.
بات القاضي بيطار، لا يشّكل هاجساً لقادة “الحزب” بسبب تصميمه الشخصي فحسب، بل أيضاً لأنه يمثل مؤسسة قادرة على تحديهم إذا لم تسْرِ التحقيقات لصالحهم، كما سيتصل الأمر بالانتخابات البرلمانية اللبنانية، وسط مشاعر معادية لحزب الله، تمامًا كما الحال في العراق، وكانت المشاعر المعادية لإيران والميليشيات التي هزت الانتخابات البرلمانية التي جرت هذا الشهر في العراق قد أثارت الدهشة على الأرجح في بيروت. وإذا كان جزء من النظام على استعداد لتحدي تحالف “حزب الله” حالياً من خلال التحقيق في قضية انفجار المرفأ، فبإمكان المحاكم أو أجزاء أخرى من النظام أن تتحداه مرة أخرى أثناء الانتخابات أو بعدها. وهذا سيناريو لا يستطيع “حزب الله” المخاطرة به، حتى لو كان ذلك يعني تأجيل انتخابات العام المقبل أو إلغائها.
وفي الوقت الحالي، من المرجح أن يؤدي فشل “الحزب” في الإطاحة ببيطار من خلال ضغط الشارع إلى العودة إلى القانون. فقد تعهّد “حزب الله” أساساً بمواصلة مقاطعة جلسات مجلس الوزراء إلى حين تلبية مطالبه. وهذا التكتيك يمكن أن يكسبه الوقت لإيجاد آليات قانونية للتدخل [في التحقيق الذي يجريه] بيطار، مثل عرقلة جهوده لاستجواب السياسيين أو استباق تحقيقه من خلال تشكيل لجنة برلمانية للتدقيق في انفجار المرفأ بطريقة محدودة وآمنة من الناحية السياسية.
التخوفات اليوم تنحصر باحتمالات تدهور الوضع الأمني في لبنان، في صيغة لن يكون الجيش فيها قادرًا على رأب الصدع بإمكانياته الهزيلة، مقابل تصاعد التوترات الطائفية بين الجماعة المسيحية بقيادة جعجع والقاعدة الشيعية لـ “حزب الله”.
“حزب الله” لاشك سيستخدم كل قوته لوقف التحقيق في قضية المرفأ لأن جهود بيطار تهدد سيطرة “الحزب” الشاملة على السلطة، وفي ذات الوقت ثمة تخوفات “محقة” لا تستبعد قيام هذا الحزب بعمليات اغتيالات قد تطال القاضي بيطار، وهو ما يستدعي تأمين حماية دولية لهذا القاضي العنيد، وإذا ما أمنت له هذه الحماية فلابد أن يشعر القضاة في المؤسسة القضائية اللبنانية بعد ذلك بأنهم أكثر تمكّناً لتقديم بعض الحماية ضد أي موجات جديدة من العنف أو الاغتيالات التي قد تظهر في الأسابيع المقبلة.
الحماية الدولية للقاضي بيطار باتت مطلبًا لصف هائل من اللبنانيين، فإذا ما حدث و “اقتلع” هذا القاضي من هذا التحقيق سواء بالاغتيال أو بالتنحية، فستكون النتيجة القضاء على المساحة السيادية المتبقية داخل المؤسسات اللبنانية، ومن بعده سقوط ما لم يسقط بعد:
ـ سقوط الدولة كل الدولة.
كما سقوط القتلى في أزقة لبنان المتشعبة، الملتبسة، القابل للاشتعال في كل آن.