هنري كيسنجر.. ليتنا سمعناه

إنه هنري كيسنجر، صاحب الإنجازات التي تسمح بوصفه “من صانعي التاريخ”، سنفهم ذلك حين نعلم أنه  من رسم الخطوة الاولى في الانسحاب الامريكي من فيتنام، وسنفهمه حين نعلم أنه من رسم  فصل القوات على الجبهة العربية الإسرائيلية عام 1974، وسنفهمه أكثر حين نأخذ علمًا بأن للرجل الخطوة الواسعة يوم قفز فوق سور الصين العظيم ليزور بكين ومع الزيارة ارتسمت معاهدة الحد من التسلح SALT التي عقدت مع الاتحاد السوفييتي ناهيك عن دوره في جهود التسوية في الشرق الأوسط.

هنري كيسنجر ذو الجذور اليهودية  الألمانية، ذاق طفولة اكتوت بنار الحرب النازية على اهله اليهود، وهاهو اليوم، وقد بات على عتبة المئوية من العمر، مازال يفكّر ويتامل ويحاور ويشير ويستشار، ولابد أن طروحاته حول الحرب الروسية الاوكرانية دفعت أصحاب الرؤوس الحامية لاتهامه بما لايحصى وبشتائم لاتحصى اقلها “براغماتي بلا مبادئ” وثمة من يضيف “وخرف”.

سيكون الامر كذلك، فالرجل لايرى الحاضر مستقلاً عن التاريخ، و”روسيا في التاريخ ” كانت جزءاً أساسياً من أوروبا منذ 400 عام”، و “أي اختلال في الصيغة لابد وتنهار معها الصيغة لتدخل القارة بأوقات حرجة لابد وتذكرنا بحربين عالميتين”، لهذا اعاد على مسامع راسمي السياسات الكبرى جملة من الحصافة التوقف عندها “لاتهينوا روسيا”.

الرجل يقولها مستعينًا بالتاريخ، تماماً كما يستعين بمعطيات الحاضر، ولابد أنه واجه في ستينيات القرن الفائت مايواجهه اليوم، يوم سخّر الدبلوماسية للواقعية السياسية ليتعلّم ويُعلِم ان الحرب الامريكية في فيتنام  لا يمكن الفوز بها، وأن أفضل طريقة للخروج منها هي الحل السياسي، يومها تعرّض لملاحقات ومطاردات إعلامية وسياسية، خصوصاً من اليسار، حتى اطلق عليه “مجرم حرب”.

 واليوم، يعلم الرجل بأن الدفع بروسيا إلى الزاوية سيضع العالم كل العالم في الزاوية وخصوصًا الأوربيين، فلا المعضلة بالغاز الروسي، ولا المعضلة بالقمح الأوكراني، المعضلة لابد وستكون في إحياء الشوفينية الروسية التي ستأخذ طريقها إلى السلاح كل السلاح دون استثناء كل ما من شأنه أن يدمر العالم، وهو يقرأ التاريخ الروسي، ومزاج الشخصية الروسية التي كان شعارها ذات يوم “القيصر في رأسي والله في قلبي”، ومع شعار كهذا لابد للروس من أن يهتفوا بحياة القيصر دون احتساب لأي دمار، وقد سبق وألحق بوريس يلتسين بهم العار كل العار، حتى باتت إهانة الروسي من بديهيات السياسات الدولية، فكان الرد، الارتداد للقيصرية عبر شخصية فلاديمير بوتين، ومزاج فلاديمير بوتين، والروس الذين أحاطوا قيصرهم بالتمجيد كل التمجيد حتى باتت الحرب اولوية يوم ذهب الأوكران لوخز أنف الروسي، مرة بإهانة الروس الأوكران وثانية باستدعائهم للناتو ليكونوا من احتياطييه.

واليوم، الولايات المتحدة تدفع نحو المزيد من السلاح، والمجموعة الأوروبية إما مذعنة للإرادة الأمريكية، وإما ذاهبة نحو خيار اللاعودة وإعدام الخيارت، وحين يقضي الكلام بالواقعية السياسية، يتحوّل القائل إلى “خائن للأمة”، ومن الواقعية السياسية إنزال فلاديمير بوتين عن الشجرة، وإلاّ فديمومة الدمار، ولن يتوقف الدمار عند حدود ومعه سينهار كل نظام، أي كانت التسميات.

هنري كيسنجر يطرح على االأوكران والأوربيين فتح طريق لفلاديمير بوتين، يحيده عن طريق التدمير الشامل لعالم يعبث به الدمار، وفي الوقت نفسه، لايدفع الأوكران للمزيد من الخسائر والخراب.

وقد بات هنري كيسنجر على حافة دنياه، قال كلمته.

كلمة قد لاتسمع اليوم.

لابد وسيأتي يوم يقال فيه:”ليتنا سمعناه”.