عندما تُبحِر الحكومة الإسرائيلية نحو جبل الجليد
قد يكون الكلام الاكثر خطورة ذاك الذي حملته ها آرتس الإسرائيلية،. الخطورة فيه أنه يذهب إلى الكلام عن المعركة الأكثر إيلامًا لإسرائيل، ولا نعني هنا معركة الصواريخ الفلسطينية التي تسقطها القبة الحديدية، لتتحول إلى مجرد صواريخ إعلامية.. لا، المعركة في مكان آخر، فقد ذهبت ها آرتس لإجراء استطلاعات رأي، فما الذي أظهرته تلك الاستطلاعات؟
بالحرف الواحد تقول ها آرتس :”الاستطلاعات الجديدة التي أجريناها، تظهر أن الجمهور الإسرائيلي لا يدرك بأن الدولة تسير نحو واقع قد يقوض المشروع الصهيوني. وهذا الجمهور مصاب بالعمى بخصوص التهديدات المستقبلية التي قد تؤثر على مصيره ومستقبله. يجب التأكيد أنه حتى الآن، وخلافاً لقرارات كثيرة للحركة الصهيونية ودولة إسرائيل فيما يتعلق بتقسيم البلاد من 29 تشرين الثاني 1947 وحتى “حلم ترامب في السلام” من كانون الثاني 2020، لم تتخذ أي حكومة إسرائيلية قرار تبني حل الدولة الواحدة، ولم تناقش الكنيست هذه الاحتمالية يوماً ما.
يأتي استخلاص ها آرتس هذا بعد مقدمات، ليست مقدمات طويلة، ففي “إعلان القدس” الذي وقع عليه الرئيس الأمريكي جو بايدن، ورئيس الحكومة يئير لبيد، الشهر الماضي، والذي أعلن فيه بايدن عن التزامه الشخصي باتفاق سياسي، تم حصر حل الدولتين في جملة واحدة في نهاية الوثيقة. الكرة فيما يتعلق بالنزاع بين إسرائيل والفلسطينيين في يد الطرفين، بالأساس في يد إسرائيل. السؤال: هل تقود القيادة الإسرائيلية دولة إسرائيل بشكل واع نحو هدف وطني استراتيجي يقبله المجتمع الإسرائيلي – اليهودي والعربي؟
الإجابة عن السؤال يقتضي بعض المعلومات، وفي المعلومات التي ساقتها ها آرتس، فإنه وحسب الإدارة المدنية، فإن اليهود بدءاً من العام 2020 هم الأقلية – 49 في المئة – من إجمالي السكان الموجودين غرب نهر الأردن. هذا هو الانقلاب الديمغرافي الثاني الذي حدث خلال أقل من مئة سنة، الأول كان في 1949 بعد حرب الاستقلال، الذي حول اليهود إلى الأغلبية في دولة إسرائيل، التي امتدت على مساحة 78 في المئة من مساحة البلاد. ولكن الانقلاب الديمغرافي في 2020 مر بهدوء مفاجئ رغم الإمكانية الكامنة والمتفجرة المدفونة فيه.
الاستطلاعات التي أجريت في السنوات الأربع الأخيرة في المجتمع الإسرائيلي، توفر صورة شاملة،
معظم الجمهور في إسرائيل يؤمن بوجود أغلبية واضحة، 62 في المئة وأكثر، من اليهود بين البحر والنهر (في أرض إسرائيل الانتدابية، بما في ذلك أراضي إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة). هذا رغم أنه فعلياً توجد الآن أقلية يهودية في أرض إسرائيل الانتدابية. هذه الفجوة تبرز إزاء حقيقة أنه إذا ما تم إقامة دولة واحدة، فالأغلبية الساحقة من الجمهور اليهودي تعتقد أنه يجب أن يكون فيها أغلبية، على الأقل 70 في المئة، من اليهود كي تستطيع مواصلة اعتبار نفسها دولة يهودية.
الجمهور العربي في إسرائيل، في المقابل، يعتقد أننا قريبون من دولة واحدة، والنصف يعتقدون بأننا أصبحنا في وضع دولة واحدة، التي لا توجد فيها مساواة في الحقوق بين اليهود والعرب. الجمهور العربي في معظمه يفضل اتفاقاً سياسياً بين إسرائيل والفلسطينيين، لكنه شبيهاً بالجمهور اليهودي، لا يؤمن بأن مثل هذا الاتفاق ما زال ممكناً.
في السنتين الأخيرتين اختفى النقاش السياسي تقريباً بين من يؤيدون تقسيم البلاد ومن يؤيدون أرض إسرائيل الكاملة. هذا الموضوع نزل من العناوين، ويبدو أنه لم يعد هناك من يهتم به. عملياً، الواقع المتغير لا ينجح في اقتحام شاشة الإنكار. الاستطلاعات التي نجريها خلال سنين تدل على أن الجمهور الإسرائيلي (وربما أيضاً القيادة) يسير بشكل أعمى نحو واقع لا يريده أبداً.
الإسرائيليون غير واعين للعملية الزاحفة لخلق الدولة الواحدة التي يعارضونها. هم ينكرون الواقع الديمغرافي الذي لا يسمح بقيام دولة يهودية وديمقراطية بين البحر والنهر. ولا يعرفون التغيرات المهمة في مزاج العالم بالنسبة “للوضع الراهن” أو الحساسية المتزايدة في العالم إزاء عدم المساواة.
يهوشفاط هركابي، كتب في كتابه الصادر في 1986 بعنوان “قرارات مصيرية حاسمة”: “أعترف بالحق الديمقراطي لليهود في إسرائيل، أن يجلبوا لأنفسهم انتحاراً وطنياً. إذا حدث ذلك، فسأذهب معهم. ولكن أريد تحذيرهم من ذلك بقدر استطاعتي”. نريد أيضاً أن نضع أمام القيادة والجمهور إشارة تحذير ضوئية من إمكانية أن تتحول إسرائيل إلى دولة واحدة غير مساواتية بين البحر والنهر. لا نحذّر من تجسيد الحق الديمقراطي للجمهور الإسرائيلي في تقرير مصيره، بل من الانجراف غير الواعي نحو واقع لا يريده، والحكومة والكنيست لم تتخذا أي قرار بشأنه. دولة إسرائيل تبحر بشكل أعمى نحو جبل جليد، لكن يمكن الاستيقاظ وتغيير الاتجاه وتجنب الاصطدام.
سؤال ربما يجدر طرحه بعد ماقالته ها آرتس:
بوسع القبة الحديدة اعتراض الصواريخ.. هل بوسعها اعتراض تكاثر الفلسطينيين؟