سوريا: الحسابات المحتملة لمعركة “ردع العدوان” ورهانات الأطراف الإقليمية
مرصد مينا
تشهد سوريا مرحلة جديدة من التصعيد العسكري في الشمال الغربي بعد إطلاق فصائل المعارضة المسلحة عملية “ردع العدوان” في 27 نوفمبر المنصرم، بقيادة “هيئة تحرير الشام” و”الجيش السوري الوطني” المدعوم من تركيا تحت إدارة غرفة عمليات عسكرية موحدة.
هذا الهجوم جاء كأكبر تحدٍّ عسكري منذ اتفاق خفض التصعيد الموقع بين روسيا وتركيا عام 2020، ما دفع إلى إعادة تشكيل خريطة النفوذ في المنطقة، وإحياء المخاوف من صراع إقليمي أشمل.
خلفية الهجوم: تحولات ما بعد اتفاق أستانة
ترتبط عملية “ردع العدوان” بمسار طويل من الصراعات الإقليمية والدولية على الأراضي السورية، بدأ مع اتفاقية أستانة التي أُطلقت عام 2017 وفعّلت في 2020، حيث اتفقت القوى الضامنة (روسيا وتركيا وإيران) على تحويل مناطق معينة إلى مناطق خفض تصعيد.
إلا أن الانتهاكات المتكررة للاتفاق والضربات الجوية على مناطق إدلب وحلب دفعت فصائل المعارضة إلى تنظيم هجوم واسع لاستعادة المبادرة الميدانية وردع القصف المستمر على المناطق المدنية، خاصة في ظل الاستهداف المكثف لريف إدلب وريف حلب.
بحسب المعارضة السورية، تهدف العملية إلى “حماية المدنيين وردع الهجمات”، بينما يعتبرها النظام السوري وكذلك موسكو وطهران “تهديداً لوحدة الأراضي السورية وانتهاكاً صارخاً لاتفاقات وقف إطلاق النار”، مما يعقد الموقف الإقليمي ويضع المزيد من الضغوط على الأطراف الفاعلة في النزاع.
مكاسب ميدانية استرايجية للمعارضة
تمكنت فصائل المعارضة من تحقيق تقدم استراتيجي ملموس، أبرز ملامحه السيطرة شبه الكاملة على مدينة حلب ثاني أكبر مدن البلاد ومعظم ريف حلب، إضافة لكامل محافظة إدلب ونسبة كبيرة من ريف حماة.
كما سيطرت المعارضة على الطريقين الدوليين M4 وM5 اللذين يمثلان شريانين رئيسيين لنقل الإمدادات العسكرية والتجارية في البلاد.
هذا التقدم أدى إلى تعطيل حركة الإمدادات لقوات النظام السوري والميليشيات الإيرانية والعراقية المتواجد في سوريا، وفرض عزلة ميدانية على تلك القوات في الشمال الغربي، لا سيما في مثلث أرياف حلب وإدلب وحماة.
إضافة إلى ذلك، تمكنت المعارضة من السيطرة على مطاري كويرس ومنغ العسكريين، مما شكل ضربة قاسية لقدرة النظام السوري والميليشيات الأجنبية على استخدام القوة الجوية لضرب المعارضة في الشمال.
كما أن الانسحاب المفاجئ لقوات النظام من مواقعها الأمامية، وتركها كميات كبيرة من الذخائر والأسلحة، زاد من زخم الهجوم وأعطى فصائل المعاضة فرصة لتعزيز مواقعها الدفاعية والهجومية.
الأبعاد الإقليمية والدولية
أفرزت هذه المعركة تداعيات عميقة على التوازن الإقليمي، حيث تواجه القوى الكبرى تحديات معقدة في تحديد مواقفها:
–إيران تجد نفسها في موقف حرج بين تصعيد مشاركتها لدعم النظام أو تقليص وجودها العسكري خشية تعرض قواتها لضربات مباشرة من إسرائيل أو التحالف الدولي، خصوصاً بعد سلسلة الضربات الأخيرة في منطقة البوكمال.
–روسيا، التي تعاني من تبعات الحرب في أوكرانيا، تحاول موازنة تدخلها في سورية للحفاظ على نفوذها الاستراتيجي، مع تقليص الانخراط المباشر لتفادي استنزاف مواردها.
–تركيا، رغم نفيها المباشر لأي تورط رسمي في العملية، يبدو أنها توفر دعماً لوجستياً وميدانياً لفصائل المعارضة، مما يتيح لها تعزيز نفوذها في الشمال السوري وممارسة ضغط على النظام السوري لدفعه نحو التفاوض حول إعادة النازحين وترسيم مناطق النفوذ.
هذه التداخلات الإقليمية تجعل المشهد السوري معقداً، حيث تتداخل المصالح الدولية مع الحاجات المحلية لكل طرف، ما يزيد من صعوبة الوصول إلى حل مستدام للنزاع.
تأثير العملية على التوازن العسكري
من الناحية العسكرية، أعادت عملية “ردع العدوان” تنشيط الجبهة الشمالية لسورية بشكل يشبه أجواء الصراع في عامي 2015 و2016 عندما كانت المعارضة تسيطر على مساحات واسعة من الأراضي السورية.
ولكن مع التدخل الروسي والإيراني، انقلبت الموازين لصالح النظام حتى اتفاق خفض التصعيد في 2020.
اليوم، ومع سيطرة المعارضة على نقاط استراتيجية، باتت قدرات النظام محدودة في التحرك عبر خطوط الإمداد الرئيسة، مما يعزز من قوة المعارضة ويجعل من الصعب استعادة المناطق التي خسرتها دمشق في وقت قصير.
السيناريوهات المحتملة
تتباين التوقعات حول مستقبل الصراع في ظل استمرار المعركة، حيث تلوح في الأفق سيناريوهات عدة:
–سيناريو التصعيد الشامل: قد يدفع النجاح الميداني للمعارضة إيران وروسيا إلى تعزيز تدخلهما العسكري، مما ينذر باندلاع مواجهات أكبر تشمل أطرافًا دولية وإقليمية أخرى.
–سيناريو التفاوض والتهدئة: قد تدفع الضغوط الدولية والأوضاع الميدانية المتدهورة الأطراف المتصارعة للعودة إلى طاولة المفاوضات، خاصة في ظل وجود مصالح مشتركة لبعض القوى، مثل ضمان الاستقرار الحدودي بالنسبة لتركيا أو الحفاظ على نفوذها في الشرق الأوسط بالنسبة لروسيا.
في النهاية يبدو أنه من شبه المؤكد أن معركة “ردع العدوان” تمثل منعطفاً حاسماً في مسار النزاع السوري الذي بدأ في ربيع 2011 كثورة شعبية ضد حكم بشار الأسد، قبل أن تتحول إلى حرب ضروس بعد تدخل أطراف إقليمية ودولية سواء إلى جانب النظام أو إلى جانب المعارضة، لهذا فإن تداعيات المعركة تتجاوز البعد المحلي لتشمل أبعاداً إقليمية ودولية معقدة.
وسيعتمد مستقبل سوريا على قدرة الأطراف المتصارعة على الموازنة بين المصالح العسكرية والسياسية، والوصول إلى تفاهمات قد تكون بداية لنهاية الصراع الممتد منذ نحو 14 عاما.