سوريا.. ما بين الثورة المضادة والسلطة الوليدة
زاوية مينا
سقط الأسد، تلك حقيقة مؤكد، ولم يسقط نظامه وتلك مقولة قابلة للنقاش، أما عن سقوطه فيكفينا القول بأنه خرج من البلاد وقد فرّغ صندوقها المالي من كما احتياطها الذهبي، غير أن تعبير سقوط النظام لابد تعبيراً يستحق العودة إلى ستين سنة من الحكم وتوارث الحكم وقد أسس فيها:
أولاً: لتغييب الحياة السياسية عن البلاد، بما جعلها بلاداً لم تختبر نفسها في إدارة نفسها وقد تركت شؤونها للجهاز البوليسي بما يمتلك من أدوات سطوة وقمع، وبما يجعل السياسة تتراوح ما بين الغضب المسكوت عنه، أو الاحتماء بمعطف السلطة دون أية مسافة ما بين رجل الحكم ورجل السياسة.
ثانياً: اجتثاث كل ما يتصل بالمجتمع الأهلي وبقوى المجتمع الأهلي، بدءاً من النقايات التي تشتغل في ظله، وصولاً للاقتصاد بما يعنيه من مستلزمات الحركة والمرونة والمبادرة ماعطّل الذهن الخلاّق أو هجّره.
ثالثاً: توطيد أركان تصحير الريف وتخريب المدينة عبر تهجير الأرياف إلى مراكز المدن، فلا الريف أبقى على ثقافته، ولا المدينة حافظت على مدنيتها فتحوّلت البلاد بثقافتها كما حال عمارتها إلى الثقافة العشوائية وقد ألقت بظلالها على كافة الناس ابتداء من جامعات البلاد وصولاً إلى ازقتها.
رابعاً: تطييف البلاد، وقد ترافق مع خطاب إنكار الطائفية، ما سمح باحتكار الوظيفة العامة لطائفة محددة وهي الطائفة العلوية عبر استئثارها بالجيش والمؤسسة الأمنية والإعلام، فكانت الطائفة الرابحة في جانب، فيما باتت وقود احتراقه في جانب آخر، ومن يتعرف على حقائق الريف الساحلي يدرك بالتمام والكمال، أنه ريف مغيّب عن التنمية، معيق للمهارات الفردية، مسلوب الإرادة، ليس أمامه سوى أن يضرب بسيف السلطان الذي يأكل من زاده.
كل هذا وذاك مثّل ميراث النظام الثقيل، وهو ميراث نشهد تداعياته اليوم ما بعد سقوط النظام، بما جعل الملايين من السكّان أيتاماً للنظام الساقط، وقد تمثل هذا اليتم في ملامح أبرزها:
ـ سقوط بيرقراط النظام عبر انتزاع الوظيفة الحكومية من أيديهم، وهو ما أحالهم إلى الفاقة والفراغ، وربما وصولاً إلى المجاعة.
ـ استخدام لغة الأمس مع اللحظة الوليدة التي تتطلب لغة أخرى.
ـ الاشتغال على الثورة المضادة عبر الاستثمار في الأقليات المسكونة برهاب المستقبل، وهو الرهاب المتأصل فيها عبر تراكم أنجزته عائلة الأسد، والذي يأتي ضمن توليد “فوبيا الأكثرية”، وهذا واحد من أسلحة النظام الساقط بمواجهة أيّة ولادة سوريّة جديدة، ما جعل الولادة عسيرة وصعبة، بل ومحفوفة بمخاطر أبرزها:
ـ إما حماية هذه الولادة بالعنف، وهذا سيضع البلاد في مأزق إعادة انتاج الدكتاتوريات، وهو المنتج الكابوس الذي لم يترك وراءه سوى الدموع والمآسي.
وإما التسليم للثورة المضادة التي تشحذ أسلحتها باتجاه استعادة الساقط منها.
وكليهما خياران مرّان، لم يكن ممكناً الخلاص منهما سوى بإعطاء السلطة الوليدة الفرصة لترميم التصدعات في مجتمع متصدع، لم يتعرف على نفسه بعد، ولم ينتج قواه بعد، وكل الممكن من المستحيل أمامه هو الاشتغال على لغة الحوار ما بينه وبين (المجتمعات السورية) مع ملاحظة اختلاف تطلعاتها وثقافاتها وأولوياتها، وليس هذا بالأمر السهل.
سلطة اليوم بدورها لم تزل أسيرة الخنادق، والقادمون من الخنادق لابد وقادرون على انتاج “الثورة” أما الدولة فلها شأن آخر، هو أعقد بما لا يقاس من نصر الثورة، والمراقبون لما تشتغل عليه السلطة الوليدة، لابد ويلاحظون أنها تشتغل على نزع ملابس الثورة نحو ملابس الدولة، وحتماً ليس بمنطق تبديل الأزياء، فيما تحمل السلطة الوليدة ما يكفي من التناقضات التي لابد وتتطلب تسويات ومراجعات، وإعادة قراءة، كما لابد وتحفل بالأخطاء التي يحملها تحوّل، هو تحوّل يحمل على أكتافه إرثاً ثقيلاً من الأمس، وسط إلحاح ثقيل بدوره على الإنجاز المستحيل في الوقت الذي أتيح لها، وهو وقت لم يتسع بعد بما يكفي لرسم تحوّل مشهود، يتطلب رفع حملين معاً:
ـ إزالة أثقال الأمس ومواجهة الثورة المضادة.
ـ بناء أسس وهوية الغد، وسط هويات متجاورة متناحرة، قد يبدو تعايشها بالغ التعقيد، فيما سيكون انفصالها بالغ الدموية والمرارة.
هي المسألة السورية في أعقد تجلياتها..
هي المسألة التي تواجه (المجتمعات السورية)، كما بمواجهة السلطة الوليدة.
الثورة المضادة تقرع الأبواب، ومن يظن أن ضباع الأمس قد خرجت من كهوفها لابد لم ير ما يكفي من الصورة.