أخر الأخبار

ما بعد حكاية البنت “ميرا”

نبيل الملحم

قالها لي رفعت السعيد، المفكر والمؤرخ المصري الذي اشتهر بجرأته النقدية واهتمامه العميق بتوثيق التاريخ:” إن المؤرخ إما أن ينال علامة مئة بالمئة أو علامة صفر”، وحين تساءلت أجابني:” لأن الواقعة التاريخية إما أن تكون قد حدثت بالفعل، أو أنها لم تحدث إطلاقًا، فلا مجال للوسطية أو التأويلات في حقائق الزمن”.

وحين سألته عن حال الصحفي في هذه الصيغة، أجاب: “الصحفي مؤرخ اللحظة”.

كانت هذه المقولة قد حفرت بي حتى أقلعت عن الكذب حين أكون “صحفياً”، غير أنه (وأعني كذب الصحافة)، قد تحوّل بالنسبة لي إلى لعنة، تكاد تلامس الجريمة، فاللعب بالوقائع تماماً كما التمثيل بالجثث، من يفعلها، ربما يتساوى مع قطط المقابر.. مقابر التاريخ إن شئت أو مقابر اللحظة.

الوقائع هنا، قد تبدو من العابر، أو الجارح، أو تلك الوقائع التي ما قبلها غير ما بعدها، فهل تندرج حكاية “البنت ميرا”، في أيّ من الثالوث السابق؟
ـ لنبسّط الحكاية ونعتقد أنها لا تتجاوز يومياتنا الممهورة بالكثير من الكذب، بما يعني أنها لاتعدو مزاحنا القاتل، ولمن لايعرف الحكاية فهذا اختزالها.

في قصة تبدو عابرة على وسائل التواصل، انكشفت مرآة كاملة لواقع سوريّ مكسور، اسمها ميرا، فتاة علوية، اختارت أن تُحب.. تزوجت الشاب الذي أحبته، بإرادتها، وبكامل وعيها. إلا أن قرارها ذاك، في بلد منهك بالحرب ومثقل بالانقسام الطائفي، كان كافيًا لإشعال موجة من الأكاذيب.

في رواية المعارضة، لم تكن “ميرا” صبية عاشقة، بل “مُختَطفة”. لم تكن صاحبة قرار، بل “سبية”. هكذا تحوّلت الحكاية من فعل حر إلى فخ طائفي.

ضجّت المنصات بالاتهامات، ووُزّعت صور الفتاة كغنيمة، وتبارى الجميع في اجترار قصة لم يسعَ أحد للتأكد منها. وحدها الحقيقة بقيت صامتة.

ليست القصة عن “ميرا” وحدها، بل عن مناخ كامل باتت فيه الحقيقة هامشًا لا يُلتفت إليه.. في مناخ الحرب، تحوّلت وسائل الإعلام إلى ساحات تصفية، ووسائل التواصل إلى منابر صراخ جماعي.. الجميع يبحث عن مادة للاشتعال، ولا يهم إن كانت كاذبة أو حقيقية، المهم أنها “تحقّق الهدف”.

الأكثر خطورة أن الكذب لم يعد حكرًا على السلطة، بل باتت المعارضة تمارسه بالحماسة ذاتها، في مواجهة سلطة تمتهن التزوير، انجرفت معارضات إلى التزوير أيضًا، وكأن المعيار الوحيد هو “من يكذب أكثر”.

في بيئات مأزومة، لا يُنظر إلى الفرد ككائن حر، بل كـ”ابن الطائفة”، أو “أداة في صراع الهويات”.. “ميرا”، كامرأة، لم تُمنح حقّ أن تكون ذاتها، بل جرى تأطيرها ضمن صراع طائفي جاهز:
ـ علويون مقابل سنّة، ضحية مقابل جلاد، والكل يتصارع على صورتها، دون أن يسأل أحد:
ـ ماذا قالت هي؟
الإعلام السوري، بكل أطيافه، فشل في معركته الأهم: معركة الحقيقة. من إعلام السلطة الموجّه بأزلامه وناشطيه ومبتذليه، إلى إعلام المعارضة المتحمّس، لا أحد يجرؤ على قول الحقيقة حين لا تخدم روايته.
الكل يصنع أكاذيب جاهزة للاستهلاك، يُعاد تدويرها على شكل “خبر عاجل” أو “حصري.

ـ و وسائل التواصل؟
المنصة التي كان يُفترض أن تعطي الصوت للناس، أصبحت حفلة جنون جماعي.. الجميع ينشر، يشارك، يشتم، ويتّهم. لا تحقق، لا مصداقية، لا مسؤولية. وكأننا في جنون ما بعد الحقيقة.

ما جرى في سوريا له سوابق مؤلمة:
ـ في رواندا، تحوّلت الإذاعات إلى أدوات تحريض قادت إلى الإبادة الجماعية.
ـ في يوغوسلافيا، ساهم الإعلام بتأجيج الكراهية العرقية.
ـ حتى في الثورة الفرنسية، استخدمت الصحف المعارضة الأكاذيب لتبرير الإرهاب، وصولاً للمقاصل التي لم تستثن طبّاخ الملك.
ـ ولكن ثمة ما ينبغي أن يُحكى:
حين تتحوّل المعارضة إلى مرآة لسلطتها، تسقط الفروق الأخلاقية، والنتيجة واحدة:
ـ الحقيقة تُشنق، دون محاكمة.

حين يكذب الجميع، لا يعود هناك من يُصدّق أحدًا.. الحقيقة لا تُكذّب فقط، بل تُغتال. والثقة تُهدر كدمٍ رخيص. هذا هو المأزق الأكبر في الحياة السياسية السورية:
ـ ليس فقط غياب الديمقراطية، بل غياب الصدق.

قصة “ميرا”، في جوهرها، ليست عن الحب ولا عن الخطف.. هي قصة وطن فقد قدرته على تصديق نفسه.. وطن إذا أحبّت فيه فتاة، يُطلق عليها الرصاص المعنوي، وإذا اختارت، تُصبح مشروع فتنة.

وحده الكذب يربح في هذه البلاد، أما “الثورة” فإذا ما احتكمنا إلى نزاهة المؤرخ، فلن تكون إلاّ بـ :
ـ ثورة على الإعلام الذي يزيّف، والمعارضة التي تخادع.
الثورة الحقيقية تبدأ حين نسأل: هل ما أقوله… حقيقي؟
وحين تكون الإجابة: نعم.
فقط عندها يُمكن البدء من جديد.
أنت صحفي؟
يعني وكما قال رفعت:
ـ أنت مؤرخ اللحظة.
وليست مهمة المؤرخ أن يُرضي أحدًا، بل أن يرفع الغطاء عن الركام، ويعيد ترتيب العظام المهملة في سياقها، مهما كان الصوت الذي يعلو فوقه نشازًا أو تمجيدًا.

واجبه الأول هو الحقيقة، لا كما يريدها المنتصر، ولا كما يتخيلها الضحية، بل كما يمكن توثيقها واستدعاؤها من شظايا الزمن.

ستكون الكارثة هنا مزدوجة حين يفقد الإنسان تاريخه الحقيقي، ليُمنح بدلاً منه نسخة مزوّرة تفرض عليه شعورًا زائفًا بالبطولة أو بالعار، وإذا كان الضمير الجمعي يبنى على الوقائع، فإن تزوير هذه الوقائع يؤسس لضلال جماعي لا يصحح نفسه بسهولة، بل قد يتحوّل إلى حجر الأساس لوعي مشوّه، ولسياسات قائمة على الإنكار.

وإلاّ كيف تُنسَج الحروب الأهلية؟
تُنسَج بلحم ضحاياها، أولئك الذين لم يصغوا لرفعت السعيد كما ينبغي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى