ما تبقى: إما أن يتراجع الحزب خطوة نحو الدولة، أو أن يتقدّم الجميع نحو الهاوية

نبيل الملحم
منذ سنوات، واللبنانيون يتعايشون مع حقيقة شبه معلنة: حزب الله لن يسلم سلاحه. ليست هذه قناعة مناهضيه فحسب، بل حتى بعض أنصاره يدركون ذلك، وإن بصمت أو بتبرير.
هذا السلاح الذي نشأ في ظروف مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وتمدد تحت شعار “سلاح المقاومة”، بات اليوم عنصرًا بنيويًا في التوازن اللبناني، بل في اختلاله.
من يعتقد أن الحزب لن يتخلى عن سلاحه لا ينطلق من عداء أيديولوجي، بل من فهم دقيق لتعقيدات البنية التي بات عليها حزب الله. فهو لم يعد مجرد فصيل مقاوم، بل كيان يملك ذراعًا عسكرية، وجسمًا اقتصاديًا رديفًا، وشبكة مصالح اجتماعية، وقوة سياسية تُدار بعقلية دولة داخل الدولة.
كل هذا يجعل من سلاح الحزب أكثر من مجرد أداة: إنه الضمانة الأخيرة لبقائه، ولبقاء مكتسبات بناها على مدى عقود.
في هذا السياق، يصبح السؤال المطروح داخل أوساط الحزب – وإن لم يُقال علنًا –هو : إذا أسقطنا السلاح ما الذي يتبقى منّا؟
الإجابة مرعبة للحزب: فقدان النفوذ، فقدان القدرة على فرض المعادلات، وربما فقدان الحصانة. والسؤال الأخطر: هل يمكن أن يصبح الحزب مكشوفًا، هشًا، بل مستهدفًا من داخل وخارج؟
لكن هذا التمسك بالسلاح، وإن بدا مفهوماً من منظور داخلي، بات عبئًا وجوديًا على الكيان اللبناني. فالسلاح الذي وُلد مقاومة، استحال أداة هيمنة، ثم أصبح مبررًا لانهيار الدولة. اليوم، لا دولة في لبنان، بل تعايش هش بين ما تبقى من المؤسسات، وبين قوى الأمر الواقع، في مقدمتها حزب الله. هذا السلاح لم يعد يهدد الخصوم فقط، بل يهدد فكرة الدولة كمرجعية جامعة.
كان موسى الصدر قد قال ذات يوم إن “السلاح زينة الرجال”.
واليوم، يُمكن القول إن السلاح صار لعنةً على اللبنانيين، مهما كانت نوايا حامليه. فالزينة تحوّلت إلى نُدبة، والهيبة تحوّلت إلى خنق للحياة العامة. لم يعد السلاح يحمي، بل يعطّل السياسة، ويُفكك الدولة، ويُغذي خطابات الطوائف الأخرى المتوجسة والخائفة.
حزب الله يدافع عن سلاحه باعتباره ضرورة “استراتيجية”، لكن أحدًا لم يعد يصدّق أن ما يمنع الحرب أو الاحتلال هو مجرد صواريخ مخبّأة في الجبال. ما يمنع الحرب هو دولة قادرة، وجيش موحد، ومؤسسات تملك السيادة الفعلية، لا مجرد أوراق تفاوضية في يد أطراف إقليمية.
ربما يدرك قادة الحزب هذه الحقيقة، لكنهم أيضًا أسرى معادلتهم. فالسلاح لم يعد خيارًا، بل قدرًا. وقدرهم هذا قد يقود إلى دمار بلد بأكمله. لا لأنهم يريدون ذلك، بل لأنهم عاجزون عن التراجع. والتراجع، في حساباتهم، يعني انكشافًا، وربما سقوطًا.
هكذا أصبح السلاح عبئًا لا يمكن التخلص منه، تمامًا كما يصبح الحلم الجميل كابوسًا حين يُفرَض على الجميع بالقوة. وهاهو لبنان أمام معادلة مأساوية:
ـ إما أن يتراجع الحزب خطوة نحو الدولة، أو أن يتقدّم الجميع نحو الهاوية
لبنان لا يحتمل أكثر. والخروج من الأزمة لا يبدأ من صناديق الاقتراع فقط، ولا من التسويات الإقليمية، بل من لحظة شجاعة يعترف فيها الجميع أن السلاح خارج الدولة هو إعلان دائم لحالة طوارئ غير معلنة. وكل طوارئ طويلة تتحول إلى موت بطيء.