هل حان الوقت لإعادة قراءة “شيمون بيريز”؟

صندوق المرصد
الإجابة بـ : نعم، فكتاب “الشرق الأوسط الجديد” لشيمون بيريز لا يمكن التعامل معه كنص عابر في تاريخ المنطقة، بل هو بمثابة وثيقة إعلان نوايا لمشروع إسرائيلي بعيد المدى، يحاول أن يعيد صياغة خريطة الشرق الأوسط بعيداً عن خطوط النار المباشرة، وبالاعتماد على خطوط المال والتكنولوجيا والمصالح الاقتصادية المتشابكة.
هذا الكتاب الذي صدر عام 1993 في أعقاب اتفاقيات أوسلو، لم يكن مجرد اجتهاد فكري شخصي من بيريز، بل تعبير صريح عن الرؤية الإسرائيلية الرسمية في تلك المرحلة، والتي بدأت تدرك أن الحروب التقليدية لم تعد كافية لضمان التفوق الإسرائيلي، وأن السيطرة يمكن أن تتم بأدوات أكثر نعومة، لكنها أكثر عمقاً وتأثيراً.
بيريز يتحدث بلغة رجل الدولة، لكنه في العمق يتقمص دور المهندس الذي يريد أن يعيد تصميم المنطقة وفق مخطط واضح المعالم، يقوم على تفكيك الصراعات التاريخية عبر مدخل اقتصادي-تقني، يختزل جذور الأزمات في نقص التنمية وغياب التعاون، متجاهلاً عمداً الأبعاد السياسية والحقوقية والأخلاقية المرتبطة بالاحتلال والاستيطان والقهر الوطني.
فالشرق الأوسط الجديد، وفق تصور بيريز، ليس ذلك الفضاء الجغرافي الممزق بالحروب والهويات المتناحرة، بل فضاء مفتوح على التدفق التكنولوجي، وتكامل الأسواق، والشراكات الاقتصادية العابرة للحدود، وهنا يتقاطع بيريز مع الفكر النيوليبرالي الذي يرى في السوق المفتوحة والعولمة الطريق الأمثل لحل الأزمات، ويؤمن بأن التكنولوجيا والابتكار يمكن أن يكونا بديلاً للصراع المسلح.
لا يخفي بيريز إعجابه العميق بتجربة الاتحاد الأوروبي كنموذج يمكن استلهامه في المنطقة، وكيف تحولت العداوات الأوروبية التاريخية، خصوصاً بين ألمانيا وفرنسا، إلى تحالف اقتصادي عميق أنهى قروناً من الدماء، وهو بذلك يسقط تجربة أوروبية فريدة على واقع شرق أوسطي أكثر تعقيداً، يتجاهل أن القارة العجوز لم تصل إلى تكاملها الاقتصادي إلا بعد اعتراف صريح بالحدود، وتسوية شاملة للقضايا القومية، وهو ما لا يراه بيريز ضرورياً في الحالة الشرق أوسطية، حيث يمكن للقفز فوق المعضلات السياسية أن يتحقق فقط عبر بوابة الاقتصاد.
أما الرؤية الفلسطينية في هذا الكتاب فتبدو باهتة، بل يكاد الفلسطينيون يظهرون كهوامش في المشهد، ليس باعتبارهم أصحاب قضية تستوجب الاعتراف، بل باعتبارهم ورقة في المعادلة الاقتصادية الجديدة، يمكن تحسين أوضاعهم المعيشية مقابل القبول بالواقع السياسي القائم، وهو جوهر فكرة السلام الاقتصادي التي يتبناها بيريز، والتي تستبطن نوعاً من الهيمنة المقنّعة، تجعل من إسرائيل ليس فقط الشريك الإقليمي، بل القاطرة التي تقود عجلة التنمية، وتُبقي الآخرين في موقع التابع المستفيد بشروط القوة الإسرائيلية.
يتقاطع هذا الطرح أيضاً مع فلسفة العولمة التي اجتاحت العالم في تسعينيات القرن الماضي، حيث بدا أن الاقتصاد والتكنولوجيا قادران على اختزال الهويات، وتذويب الحدود، وإعادة تشكيل العلاقات الدولية بعيداً عن مفاهيم الصراع التقليدي، غير أن الواقع أثبت لاحقاً أن العولمة لا تلغي جذور الصراعات، بل أحياناً تعمقها حين تُستخدم كغطاء لإعادة إنتاج السيطرة والهيمنة بأدوات غير مباشرة.
ما يميز طرح بيريز أنه لم يكتفِ بالتنظير السياسي، بل قدّم تصوراً عملياً يقوم على مشاريع ملموسة مثل شبكات المياه الإقليمية، خطوط الكهرباء العابرة للحدود، مناطق صناعية مشتركة، تعاون في مجالات التكنولوجيا والزراعة، وكلها تبدو على الورق مغرية، لكنها في العمق تعيد صياغة موازين القوى لمصلحة إسرائيل، وتجعل من الحاجات الحيوية للشعوب العربية والفلسطينيين مرتبطة عضوياً بإسرائيل، بما يعني خلق حالة تبعية اقتصادية تجعل من فكرة المقاومة السياسية أو العسكرية أكثر تكلفة وتعقيداً.
اليوم، بعد أكثر من ثلاثة عقود على صدور الكتاب، يمكن القول إن ملامح هذا المشروع بدأت تتسلل تدريجياً إلى واقع المنطقة. اتفاقيات إبراهام، مشاريع الطاقة والربط الكهربائي، التعاون الأمني والاقتصادي بين إسرائيل وعدة دول عربية، كلها تعكس عملياً بعض أفكار بيريز التي بدت وقتها طوباوية أو خيالية، ومع ذلك، فإن جوهر الصراع لم يُحلّ، بل تعمّق في جوانب أخرى، خصوصاً في ظل بقاء القضية الفلسطينية عالقة، بل ومرشّحة للانفجار في أي لحظة، كما أظهرت الحرب على غزة وغيرها من المواجهات.
إن قراءة كتاب بيريز اليوم، بعيداً عن الأوهام، تضعنا أمام مشروع متكامل للهيمنة الناعمة، يعيد تعريف العلاقات في الشرق الأوسط، لا عبر تفكيك أسباب الصراع الحقيقية، بل عبر تجاوزها، وخلق واقع اقتصادي وتقني يجعل من الاعتراض السياسي نوعاً من العبث غير المنتج.
إنها محاولة لإعادة صياغة المنطقة من الأعلى، دون المرور بتسوية عادلة لجذور القضايا، وهو ما يجعل مشروع بيريز، رغم بريقه الاقتصادي، مشروعاً يحمل في طياته تناقضاً بنيوياً لا يمكن تجاهله.