أخر الأخبار

في تلك اللحظة، لا أحد يخرج سالماً، فإما أن تُصبح قاتلًا لتنجو، أو ضحية لتُنسى

نبيل الملحم

لمجرد التنويه: ما ستقرؤه ليس سوى تمرين في التخيّل… تخيّل ما قد يحدث إن وُضعت سوريا في ميزان نار جديدة، لا تُشبه حربها الماضية إلا بكونها أكثر فوضى، وأشد تكسّرًا.

**
في جحيم دانتي، كانت بوابة الجحيم تحمل نقشًا لا يُنسى:
ـ تخلّوا عن كل أمل، أنتم الداخلون.

لكن في النسخة السورية من الجحيم، لا حاجة لتلك العبارة، يكفي أن تعود من المنفى، أو أن تستفيق من الخوف، أو أن تنبس بكلمة، حتى تجد نفسك في متاهة من الكلمات القاتلة.
**
تبدأ الحروب الأهلية غالبًا قبل أول طلقة.. تبدأ بـ “الكلمة”، بنبرة صوت فيها احتقار، بشتيمة تُقال على الهواء، بمصطلحات مثل “خائن”، “مندس”، “طائفي”، “إرهابي”، “حفار قبور”.

ثم تنتقل من الشاشات إلى الشوارع، ومن الألسنة إلى الأيدي.
ولأنها حرب أهلية، فهي لا تعرف الجبهات، بل تعرف النوافذ المكسورة، ودفاتر العائلة، وخريطة اللهجات.
**
في المشهد المتخيّل، يبدأ كل شيء من فيديو مسرّب، لا يُعرف من صوّره، ولا كيف تسرّب، وحدث هذا في التمهيد للجحيم السوري.

مجموعة من المسلحين تُهين رجلًا مسنًا، بحلق شاربه مثلاً، وحين تقوم جماعة مسلحة بحلق شارب الرجل، فذلك ليس مجرد اعتداء جسدي بسيط، بل هو إهانة مقصودة ومحمّلة برسائل ثقيلة.. هو بمثابة قتل رمزي لرجولته، وانتهاك لهيبته، وتحقير لرمز اجتماعي بما هو أفدح من القتل.

أتذكرون ذلك المشهد العبقري لمحمود المليجي في فيلم الأرض لحظة حُلِق شاربه عنوة؟
ـ أتذكرون دموعه؟

سيعاد المشهد عبر نشر الفيديو على صفحات السوشال ميديا، مع تعليقات طائفية، شامتة.
في الطرف الآخر، يُقتل شاب من مدينة أخرى بعد مشادة كلامية أمام بوابة مخبز.

لن تمضِ أيام، حتى تبدأ الحواجز العشوائية بالظهور.
أسئلة تُطرح على العابرين:
ـ من وين أنت؟
.إقرأ لي هاي الجملة باللهجة تبعك.

المدن تُغلق على نفسها، وتصبح اللهجة بطاقة هوية بديلة.

**
في مدينة أخرى، يعود رجل خمسيني إلى حارته بعد سنوات من اللجوء، ليجد بيته قد سُكن من آخرين، وجدرانه مغطاة بعبارات لا يفهمها.
وفي مدينة ثالثة، مدرسة كانت تستقبل أطفالًا من سبع قرى، تُقسَّم إلى قسمين:
ـ قسم للناجين، وقسم لأولاد “المشكوك بدمهم، عرقهم، طائفتهم”.
يبدأ الأطفال بتعلّم خريطة الكراهية قبل أن يتعلموا الحروف.

**
حدث هذا في لبنان من قبل.

بدأت الحرب الأهلية هناك بطلقة واحدة بعد قداس، ولم تنتهِ إلا بعد 150 ألف قتيل، وانهيار دولة كاملة.
وفعلتها رواندا حين بدأت بـ”إذاعة الكراهية”، وفعلتها يوغوسلافيا حين زرع القوميون خريطة الخوف في كتب التعليم قبل أن يزرعوها في القرى.
فلماذا نعتقد أن جمرنا لا يمكن أن يُشعل؟

**
في تقارير دولية صدرت عن مجموعة الأزمات الدولية ومعهد كارنيغي للشرق الأوسط، وُصفت سوريا ما بعد الحرب بأنها:
ـ هشّة، غارقة في الفقر، مُنقسمة مناطقيًا، بلا عقد اجتماعي جديد.
أي أنها الوصفة الجاهزة لاندلاع صراع أهلي غير معلن، يبدأ باسم الأمن… وينتهي بحكم الميليشيات.

**
لكن أخطر ما في الحروب الأهلية أنها تُطفئ المعنى قبل أن تقتل الجسد،
فلا عدو واضح، ولا جبهة صريحة، وكل شيء فيها يتحول إلى احتمال قاتل:
ـ الجار، الأخ، الصديق، اسم العائلة، لهجة الأم، أو حتى طريقة الصلاة.

**
في الجحيم السوري المتخيَّل، لا أحد ينزل إلى “الدرك الأسفل”، بل كل طبقة فيه تمتص مساحة من ضمير الإنسان، وصولاً لتجريده من الضمير.
كأنك تسير في دوائر دانتي، لكن بلا فيرجيل يدلّك، ولا بيت من الشعر ينقذك:
ـ هنا، لا أحد يخرج سالمًاً، فإما أن تُصبح قاتلًا لتنجو، أو ضحية لتُنسى.

**
كل ما يتبقّى لنا هو أن نتخيّل، لنتخيّل أن:
ـ أول رصاصة تُطلق في الحرب الأهلية، تكون في الحقيقة كلمة.
وما يحدث أن:
ـ الكلام لا ينتهي.
هو “المجّاني” الوحيد الذي يُنتج أثماناً باهضة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى