fbpx

اقتصاد الظل السوري: كيف يحيا الدراويش زمن الحرب؟

وسطَ أكثر من ألف شخص تجمعوا في انتظار وصول سيارة “الغاز” قرب مبنى المحافظة في اللاذقية يتجول “أبو محمد” بين المنتظرين منادياً بأعلى صوته: “تعال روّق، روّق تعال، ع القهوة والشاي، ع الشاي والقهوة”، وعلى دراجته الهوائية يحمل بائع القهوة ترمسين من القهوة، أحدهما بلا سكر والثاني بسكر، أسأله ما السبب؟ يقول: “كرمال من يحبون القهوة الوسط”، يغادر الرجل الستيني المكان متجهاً إلى زبون متوقع أشعل سيجارة وبدأ بالنفخ. ينتهي نهار الرجل عادةً عند الثامنة مساء بعد أن يكون قد انتهى من بيع عدة ترامس من القهوة والشاي محققاً وسطياً ما بين أربعة إلى خمسة آلاف ليرة سورية يومياً (8-10 دولار)، ولكن هذه الأرقام تنخفض في أيام العطل والجمعة لتصل إلى حدود ألف ليرة (2 دولار)، لا يرتاح الرجل ولا يعطّل عن عمله كل الشهر، فوراءه “نفر” عليه إطعامه: “سبعة أفواه مفتوحة”. يتواجد أبو محمد في كل أمكنة المدينة، وأينما عرف بوجود مناسبة أو احتفال أو اختناق مروري حتى، ينتقل مستعيناً بعدد من الأصدقاء الذين يحبونه ويخبرونه عن تلك الأماكن، يضحك ويقول: عندي شبكة مخبرين آوادم، حيث يرافقه “اقتصاده المتنقل” ـ دراجته والغاز الصغير وعدة القهوة والشاي ـ إضافةً إلى ابتسامته الحاضرة دوماً التي هي جزء من “اقتصاده” كما يقول، “فالابتسامة تجلب الرزق”. قهوة، تعقيب معاملات، مواقف سيارات …الخ: لأبو محمد موقع ثابت يومياً لمدة تتجاوز الساعتين صباحاً أمام الدوائر العقارية في اللاذقية، هنا يمكنه أن يلتقي مع أشخاص يشبهونه كثيراً باقتصادهم المتنقل هم أيضاً، فمنذ الصباح يحتل هؤلاء مواقعهم على باب المديرية وليس لأي منهم “مكتب” أو “موقع ثابت”، منتظرين المواطنين القادمين لتخليص معاملاتهم جالسين على كراس خشبية وأمامهم حقيبة تحتوي كل أنواع الأوراق المحتمل طلبها منهم، “بيان قيد عقاري، حصة سهمية، سند تمليك زراعي” أي شيء تطلبه منهم تجد له منفذاً عندهم، يقول أحدهم: “الذي لا يأتي إلينا مصرّاً أن يقوم بمعاملته لوحده، سيرجع إلينا، الشباب (يقصد الموظفين في العقارية) سيعيدونه إلينا”، وبالفعل، فإن دخولك تلك المؤسسة يعني ضياعاً مؤكداً في وقتك وفي الطلبات التي تنهال عليك عند طلبك أي ورقة رسمية عدا عن الرشاوى التي عليك دفعها. ولا يتصارع أصحاب هذا الاقتصاد على الزبون كما يفعل المستثمرون الكبار، فكل قانع برزقه القادم في يومه، يقول أحد أصحاب المكاتب المرخصين: “كل يوم لا بدّ أن يأتينا زبون على الأقل، لذلك، إن لم يكن لديّ طلب الزبون أرسله إلى جاري أو العكس، نحن لدينا ذمة وضمير ….”. لا يختلف المشهد السابق أمام الهجرة والجوازات في اللاذقية كما في مناطق أخرى في البلاد، فهؤلاء “الحويصة” كما يطلق الناس عليهم قادرون على حل كثير من المشاكل التي يفتعلها الموظفون أحياناً لأن هناك اتفاقات سرية أو علنية بينهم وبين الحويصة، وفي زمن الحرب، اتضحت أكثر علنية هذه الشخصيات وأعمالها في ظل رضى عام عنها لأنها تختصر الوقت لا المال كثيراً في هذه المعاملات، يمكنك مثلاً مقابل بضعة آلاف من الليرات الحصول على جواز سفر بأقل من أسبوع، أحياناً في اليوم نفسه إن عرفت رأس الخيط. نموذج أخر انتشر بكثافة هو بيع مواد جديدة فرضتها ظروف الحرب نفسها وعلى رأسها حلول الطاقة البديلة للإضاءة (الليدات التي داخلت تجارتها مع فساد مواز في قطاع الكهرباء الرسمي) أو توليد الكهرباء عبر مولدات الديزل، أو حتى بيع المشتقات النفطية في السوق السوداء أو القيام بأنشطة ممنوعة مثل تحويل العملة. بالطبع لم يكن هذا النوع من الاقتصاد غريباً عن الاقتصاد والحياة السورية إلا أن الحرب أضافت له أبعاداً جديدة كثيرة، وإن كان من الصعب تحديد العدد الدقيق للمشتغلين بهذا النوع من الاقتصاد، إلا أنه على الأكيد يضم ما لا يقل عن عدة ملايين متوزعين على جغرافيا البلاد كلها، خاصة إذا عرفنا أن نسبة البطالة العامة في سوريا العام 2018 قد بلغت 53% من إجمالي القوة العاملة (الباقية) في البلاد.  اقتصادٌ ليس باقتصاد: يُعرّف اقتصاد الظل أنه كل نشاط اقتصادي يمارسه أفراد أو مؤسسات، ولا يدخل في حسابات الناتج القومي أو في النظام الضريبي أو الرقابي أو يدفع أية رسوم إدارية أو تنظيمية أو أي أمر آخر يتعلق بمنظومة الاقتصاد الرسمي، من الواضح أنه كلما قلّت نسبة هذا الاقتصاد كان ذلك مؤشراً على تعافي وصحة الاقتصاد الرسمي المرتبط بالدولة. في الحالة العامة يمكن تقسيم اقتصاد “الظل” إلى نوعين من النشاطات، كما يقول الباحث “أسامة نجوم” في دراسة أكاديمية له(1)، أولها، (نشاطات مشروعة) لجهة ديناميكية الإنتاج والعرض والتقديم والتزويد والتشغيل والاستهلاك، تتحرك ضمن منظومات (غير رسمية) بحكم الواقع (وغير مرتبطة بجهاز الدولة)، كعمل الأسر في القطاع الزراعي وبضمنهم الأطفال، والثانية (غير مشروعة) تتحرك ضمن منظومات (عمل رسمية) قد تكون ضمن الدولة أو بالتوازي معها أو بالاعتماد على سلطتها. ينتمي للنموذج الأول عدة شرائح، منها، عشرات الأكشاك وبسطات بيع الخضار والمواد الاستهلاكية والمنظفات من المساعدات المقدمة للسوريين والمواد التموينية مثل البقول والحبوب وغيرها، والعاملين في قطاع البناء غير الشرعي، وغالب المشتغلين حالياً هم من معاقي الحرب أو المهجرين، أضافت الحرب لهم أعداداً متزايدة في ظل توقف كثير من المصانع الصغيرة والورش في البلاد، ودخول هؤلاء (أي ما يحصلون عليه من عملهم) بالكاد تكفيهم قوت يومهم. أما القسم الثاني، فجزء كبير منه مرتبط بآليات الفساد المنتجة في العقود السابقة ضمن منظومات الدولة نفسها أو بدعمها، من زراعة المخدرات والتهريب (ثمانينيات القرن الفائت بشبكاته العابرة للدول) والإتجار بالسلاح (كحال الحرب السورية الراهنة)، والآثار (تنتشر في إدلب بكثافة هذه الأيام)، ومن محدثي هذا النوع، متنفذو الأرصفة في المدن الذين يتقاضون مبالغاً مالية لقاء ركن السيارات في مواقع عامة بالأصل (كراجات، أو حدائق، أو أمام مطاعم) لصالح شبكات تعلن سيطرتها على هذا الشارع أو تلك المنطقة بدعم أمني أو عبر اتفاقات غير معلنة مع الشرطة أو مع غيرها. يذهب الباحث نجوم، نقلاً عن دراسات عالمية أن نسبة اقتصاد الظل في سوريا بين السنوات 1999-2006 حوالي 19.3%، في حين يؤكد باحثون محليون أن النسبة أكبر من ذلك بكثير، وتصل إلى 45%، وعدد العاملين فيها لا يقل عن ثلث اليد العمالة السورية، والقسم الأكبر منها من العاملين لحسابهم أو حساب أرباب عمل، ومجموع الفئتين ينتهي إلى المهن الحرة والورش الصغيرة، ولا سيما في قطاع البناء الذي شهد استقطاباُ كبيراً لهذا النوع من اليد العاملة في فترة ما بعد الانفتاح الاقتصادي لسوريا بعد 2005. سنوات الحرب، سنوات التصاعد الكبير: يروي أبو فؤاد ـ تاجر سابق في قطع التبديل من مدينة حلب ـ كيف انقلبت حياته رأساً على عقب في غضون أقل من ثلاث سنوات، فعندما بدأ الحراك كان يمتلك مستودعات في مناطق مختلفة في المدينة ملآى بقطع التبديل التي يبيعها لمؤسسات عامة وخاصة، ومنها معامل قطاع الغزل في حلب والمنطقة الشرقية، وقد شارك بدعم الحراك عبر لجان تشكلت في الأحياء، مع تحول الصراع إلى صراع مسلح انتقل التبرع من حالة طوعية إلى إجبارية، “تمت سرقة مستودعات لي من قبل اشخاص مجهولين”، يقول الرجل مضيفاً: “كان قد بقي لي بعض المال، حملتُه باتجاه دمشق، على حاجز سلمية الشهير، تم اعتقالي لأسبوع، ولم يقبلوا تركي إلا بعد أن جردوني من كل ما أملك، وصلت إلى مرحلة “شحادة ربطة الخبز من أصدقائي”، اليوم، يحاول الرجل ترميم خسائره الكبيرة دون كثير نجاح، فأي عمل “هناك من يقاسمك إياه بالنصف أو أكثر، في حلب، كما في دمشق”. إلى ذلك، وعلى المستوى الجمعي الأعم، فقد أدّت العمليات العسكرية المتصاعدة وحصار المدن والتهجير القسري لأكثر من 6 مليون إنسان داخل البلاد إضافة إلى 6 مليون آخرين خارجها إلى (اختراع) أنواع من الاقتصادات نقلت أشخاصاً من أسفل السلم الاجتماعي إلى أعلاه، وبالعكس، استجدى رجال أعمال سابقين الخبز لأولادهم بعد أن تم تشليحهم كل ما يملكون. في تقرير المكتب المركزي للإحصاء التابع للحكومة الصادر العام الماضي تبين أن أكثر من 76.6% من السوريين يعيشون في (العدم) بمعناه الفعلي، أو في مستوى منخفض جداً بدخل يومي لا يصل إلى الحدود السابقة لمن يعتبرون فقراء أو عاطلين عن العمل، وتشمل العينة المأخوذة سوريين داخل البلاد في مناطق سيطرة الحكومة وأخرى تحت سيطرة قوات المعارضة بما فيها الكُردية. يضيف التقرير أن 31% من السوريين غير آمنين غذائياً، يرفع هذا التقرير نسبة اقتصاد الظل إلى 78% من الناتج الإجمالي السوري، وبضمنه الحوالات المالية التي يتلقاها السوريون من الخارج. آفاق اقتصاد الظل في سوريا الراهنة: أكملت سياسات الحكومة الرسمية، وسياسات مشابهة في مناطق خارجة عن سيطرتها، من إحكام الخناق على رقبة المواطن السوري وتحويله إلى كائن يعمل أكثر من 17 ساعة يومياً كي يقف عند حدود اكتفاء وهمي لمأكله ومشربه هو وعائلته ويعيش حياةً يومية فقط دون التفكير بالغد، فتلاحق الأزمات المعيشية بمختلف قطاعاتها أفقدته أدنى نسب الشعور بالأمان. لا يوجد في اقتصاد الظل أية ضمانات قانونية ولا إنسانية للعاملين فيه بمختلف قطاعاته، سواء كانت مشروعة أو غير ذلك، هذا يعني أن أي خطأ أو احتمال خطأ سيدفع بهؤلاء إلى سوق البطالة من جديد، ويعني أيضاً التحكم في مداخيل الأفراد وبالطريقة التي يجد صاحب العمل فيها مصلحته قبل أي مصلحة أخرى، اليوم هناك من يتقاضى أجراً يومياً أقل من دولار لساعات عمل تمتد من الصباح إلى المساء، وأحياناً بدون وجبات طعام كما هو حال الأطفال والمراهقين في المناطق الصناعية مثلاً. يمكن لاقتصاد الظل أن يساعد البلاد في الخروج من محنتها في حال تم تخطيطه وقنونته بشكل يسمح بدعم مواز لعناصره الفاعلة وتحديداً اليد العاملة. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا” هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد. حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى